بقلم حنافي جواد
نظرة في الثقافة
ولم أرَ قط سلطة أخطر من سلطة الثقافة!
الثقافات متعددة وليست واحدة؛ فمن الخطل المنهجي والفني الحديث عن الثقافة بالمفرد والتعامل معها مستقلة، فهي كلّ ٌمتكامل منسجم متناغم، وإن بدا بينها التناطح والتدافع أوقاتا.
الثقافة هي كل ما يلفيه الإنسان بعد خروجه إلى الوجود؛ وكذا كل ما يشارك في إنتاجه واستهلاكه؛ والناس في المشاركة درجات، فمنهم المقل ومنهم المكثر ومنهم المستهلك وهم الأكثرية!
حظ الناس في نسْجِ ثوب الثقافة مختلف من شخص لآخر؛ لكن على الإجمال؛ فإن الحظ الأكبر من نصيب فئات خاصة / أو جماعات معينة؛ هم صانعو العقول، هذه صفاتها:
· الغنى / القوة المادية؛
· الوجاهة في المجتمع؛
(حظ الضعفاء في الإنتاج الثقافي ضعيف وضعيف جدا، نصنفهم في خانة المشاركين بالاستهلاك)
الضعفاء مولعون بتقليد الأغنياء والأقوياء؛ لماذا؟
· في نظرهم هم النموذجُ الناجح؛
· لشيء في أنفسهم يدعوهم دعوة إلى الإعجاب بهم؛ لأن النفس تعشقُ الرفاه والسعة، وتكْره الضعف والفقر، لأنه سبب الشقاء والضيق والتعاسة.
الثقافة مفهوم مركب، يشمل ثقافة الأكل والشرب والنوم والكلام والتفكير وأساليب العيش والتعامل مع الوضعيات الجديدة والمشاكل...
فهناك ثقافة البيت والشارع والحي والمدينة والدولة، وتعدد هذه الثقافات لا يمنع من تعميمها في صيغة عامة موحدة، فمثلا الثقافة الإنسانية تختلف عن الثقافة الحيوانية؛ نعم للحيوانات ثقافة تخصهم وتنسجم وخصائصهم، فإذا أردت أن تتعرف عليها فدقق اللحظ وكن نزيهاً في أحكامك ثم تخلص من الاستدلال بالتماثل (فلا تجعل نظرك إليهم كنظرك إلى أبناء جنسك، حاكمهم إلى طبيعة عقولهم)
يستدخل الإنسان الثقافة التي أنتجها بنو جنسه عبر قنوات عدة:- الأسرة- وسائل الإعلام- الشارع –المدرسة
- الحي... فالإنسان معرض لبرامج الثقافة حيثما حل وارتحل؛ فالثقافة كالهواء...
تختلف حدَّة البرامج الثقافية باختلاف مصمم/ مصممي البرنامج؛ فمنها البرامج القوية المؤثرة التأثير البالغ؛ ومنها البرامج قليلة التأثير، ومنها البرامج غير الفعالة؛ لكن مع ذلك لها حظها ونصيبها.
تتكون الثقافة انطلاقا من أسلوبين هامين:
- الأسلوب العفوي؛ عن طريق التفاعل والانسجام والتداخل بين أساليب الناس وطرائقهم في السلوك والتفكير وفقا للبيئة العامة والوضعيات الاستثنائية.
- الأسلوب الاصطناعي؛ وهو أسلوب مدروس ومخطط له من جهات معينة لتحقيق أهداف محددة، وهو الأسلوب الطاغي والمنتشر في العصر المعولم.
يتوارث الناس الثقافة كما يتوارثون لون الشعر والبشرة والطول والنضارة...
لكن عملية الإرث هذه لا تتحقق إلا في ظل مجتمع ورث الثقافة من أسلافه؛ وهذا أمر طبعي. فالغنى يورث والفقر يورث...إنهم يتوارثونه من خلال أساليب التفكير وبرامج التطلعات.
لا يجب أن يفهم من كلامي أن مسألة الإرث هذه مطردة وشاملة للحالات كلها: فالأصل أن يرث الإنسان الغنى/ الفقر، لكن المحافظة على الإرث رهينة بالشخص نفسه والعوامل المؤثرة التي تحيط به. فقد يسلك مسارا يبدد ثرواته أو يقويها.
من بنات نظري: أن الطبيعة البشرية عند التقادم تصبح ثقافة والثقافة ُطبيعة.ً فالطبيعة في حقيقتها رواسب ثقافية قديمة. فيمكن نقل الجبال من موضعها حجراً جحراً ولا يمكن[1] نقل ما ترسب عند الناس من عادات وتقاليد، ذلك أنها أصبحت قطعة منهم وجزء لا يتجزأ من كيانهم؛ يألفها الجسم إيلافا.
الثقافة التي تروج في العالم اليوم ثقافة الأغنياء والأقوياء؛ ثقافة الرجل المسيطر الذي استطاع أن يغري الناس والعالم. وأقصد بالثقافة في هذا السياق الثقافة العرضية الشكلية السلبية؛ زبالة الثقافة، إن صحَّ التعبير؛ ثقافة اللباس؛ ثقافة الأكل؛ ثقافة الرقص؛ ثقافة الجنس بالمعنى السالب؛ إنها ثقافة المظاهر والشكل.
للثقافة سلطة قوية وقوية جدا؛ وأخص بالذكر الذين لا يتحصنون بالحصانات اللازمة، وكذا الذين لا يجددون مناعتهم بين الفينة والأخرى؛ ذلك أن الأشكال السلطوية التي تظهر بها الثقافة تتباين من وقت لآخر؛ فضلا عن أن منطق القطيع يحكم البشر كما يحكم الأنعام؛ وهذا من مقتضيات الطابع الاجتماعي للبشر.
كيف تتوقع الانعزال والهروب إلى الأمام أو إلى الوراء؟
فلا انعزال ولا هروب لأن الثقافة تحيط بصاحبها من كل حذب وصوب؛ من كل جانب، لأنها إرث، ومن الصعب التخلص من الإرث أو الاستغناء عنه. ومن هنا نفهم سرا صغيرا من أسرار مشروعية الهجرة في الشريعة الإسلامية...
بل كيف سيخطر بالبال الهروب وفي القلب ثقافة تملأه عن آخره؟
بعض الفرص سانحة؛ لكنها قليلة. إننا نتصرف على ضوء ما تمليه الثقافة التي ارتضعنا- بل ونرتضع الآن- لبانها؛ فهي التي شكلت الفكر، وبناء على الفكر يكون السلوك. ولن يكونَ نتاج الفكر إلا ثمرات من شجرة الثقافة، تلاقحت عناصرها وانصهر بعضها ببعض فأنتجت ما أنتجت.
لا يمكن للعقل أن يفهم مسألة من المسائل إذا لم يجد في الثقافة ما يعينه على فهمها أو يؤسس لها؛ وبكلمة أخرى إن العقل يقيس الجديد من المسائل على قديمها المتوافر في الثقافة. هذه العملية عقلية بامتياز؛ تدركها إدراكا إذا وقفت على نفسك وأنت تفكر في نازلة أو حادثة.
ما وجدت أدق من حديث أبي فهر محمود محمد شاكر عن الثقافة. قال:
" فإن الثقافة، فاعلم، تكاد تكون سراً من الأسرار الملثمة
في كل أمة من الأمم وفي كل جيل من البشر. وهي فــي
الأصل الراسخ البعيد الغور، معارف كثيرة لا تحصى،
متنوعة أبلغ التنوع لا يكاد يُحاط بها".
(المتنبي رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. دار المدني بجدة.
الطبعة 1987مـ/ 1407هـ ص: 28 )
ثم قال كذلك:
" ولا يغررك ما غُريَ به، أي أولع، بعض المتشدقين المموهين: « أن القاعدة الأساسية في منهج ديكارت، هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل
بحثه خالي الذهن تماما مما قيل» ( في الشعر الجاهلي) فإنه شيء لا أصل له، ويكاد يكون، بهذه الصياغة، كذبا مصفى لا يشوبه ذروٌ من لصدق (والذرو: دقيق التراب) ، بل هو بهذه الصورة خارج عن طوق البشر. هبه يستطيع أن يخلي ذهنه خلوا تاما مما قيل، وأن يتجرد من كل شيء كان يعلمه من قبل، أ فمستطيع هو أن يتجرد من سلطان " اللغة "التي غذي بها صغيرا وبها صار إنسانا ناطقا بعد أن كان في المهد وليدا لا ينطق؟
أ فمستطيع هو أن يتجرد من سطوة الثقافة التي جرت منه مجرى لبان الأم من وليدها؟ أ فمستطيع أن يتجرد كل التجرد من بطش الأهواء التي تستكين ضارعة في أغوار النفس وفي كهوفها، حتى تمرق من مكمنها لتستبد بالقهر وتتسلط؟ = كلام يجري على اللسان بلا زمام يضبطه أو يكبحه، محصوله أنه يتطلب إنسانا فارغا خاويا مكونا من عظام كسيت جلدا، لا أكثر!!"
(المتنبي رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. دار المدني بجدة. الطبعة 1987م/ 1407 ص: 29 – 30 )
فصل: نظرة تشريحية في الثقافة
الثقافة لغة يجدها الطفل عند وجوده. واللغة لا تدرك إلا بالفعل. فالعادات لغة والمشاعر لغة والأفعال لغة والإشارات لغة وتقاسيم الوجه. إنها لغة بمعناها العام. لا تثبت معاني الألفاظ والكلمات إلا إذا صاحبتها الأفعال، لتستقر في الذهن واضحة بينة.
الثقافة عملية تراكمية منظمة، وأساس هذه العملية انضمام العناصر الثقافية إلى بعضها، من خلال قانون التكرار والإيلاف والقدوة (النموذج العملي للفعل)
تقع عناصر الثقافة على بعضها؛ والطيور على بعضها تقع؛ فيحصل الترسب والتشبع، فتنسجم النظرة والفكرة والطموح مع المستبطنات من الثقافة.
التشابه الحاصل بين أصحاب الثقافة الواحدة راجع إلى وحدة اللغة الثقافية. أقصد هنا بالتشابه التشابه الكلي الأساسي لا الجزئي الثانوي.
الأسس الثقافية الأولى تتكون في مراحل النشأة الأولى، من الولادة إلى سن العاشرة على أقصى تقدير. تتكون آنئذ الخلايا الأولى للثقافة للمعينة، فتستقبل ما يخدم الأصل ولا يناقضه. إنها مسألة مسار وتوجه. ثم نشير في هذا السياق إلى مسألة مهمة وهي أن الثقافة مهددة بوحش الهوى، خصوصا إذا كانت ثقافة مستقيمة. إذ هي قابلة للميلان مع المنحدرات التي يميل إليها الإنسان بطبعه، بصرف النظر عن الثقافة التي تلقاها. فجانب الانحدار في الثقافة أرجح من جانب الرقي والصعود، لذا فالثقافة الفاسدة تلقى القبول في تجارب متعددة.
من المفروض أن الأسرة هي التي تؤسس للغة الثقافية الأولى، وقد تنافس من جهات أخرى، بل قد ترغب بطيب نفس في قبول مشاركين في عمليات بناء الأسس الأولى؛ إما عن اقتناع أو سلطة رمزية سحرية ناعمة (الإعلام).
تغير الأسس الثقافية من أصولها، عملية عسيرة، لكنها ممكنة. عسيرة لأن اقتلاع الجذور واستنبات أخرى يتطلب وقتا جهدا وقناعات ضخمة، وقوة تحكم كبيرة، وأظن أن العملية لن تكون على أتم وجه لأنه من الممكن أن يعود أحد الجذور القديمة إلى الحياة مرة أخرى.
هناك ثقافة الغنى وثقافة الفقر وثقافة التفوق وثقافة التأخر وثقافة الإيمان وثقافة الإلحاد...من حظ بعض الأطفال أنهم نشؤوا في حضن ثقافة غنية، ومن سوء حظ آخرين أن نشؤوا في ثقافة فقير.
فلو كان هؤلاء مكان أولئك لاستفادوا مما استفاد منه غيرهم، لأن الثقافة تصنع التربية والتربية تصنع الذكاء.
الثقافة تغني وتفقر؛ مجازا لا حقيقة؛ لا في ذاتها بل في بعض عنصرها، لأنك كما عرفت فالثقافة ثقافات منها عناصر تخدم الاقتصاد وعناصر تخدم الاجتماع والفكر والسياسة والعلاقات والمشاعر والتعامل مع الذات والبيئة...إن الغنى يورث وكذلك الفقر من ناحيتين:
الناحية الأولى: ما يورث عن الأقارب من أموال وعقارات...
الناحية الثانية: الفكر الاقتصادي، وآليات التعامل مع المال واستثماره...
فقد يضيع المال إذا لم يك وراءه فكر اقتصادي يدبر ويسير ويدير.
وما قلناه عن إرث الغنى والفقر نقوله مثله عن إرث التفوق والجهل والإلحاد والإيمان وأسباب اللياقة...وتتداخل في هذا الأمر ثقافة البيت والمجتمع بل والعالم، ولكن الغلبة والطغيان يكون للأسس الثقافية الأولى فهي أقطاب مهمة محددة لشكل وحجم البناء الثقافي.
علاقة الثقافة بالمحيط حميمية، فالثقافة تصنع المحيط والمحيط يصنع الثقافة ويخدمها ويطورها... لكن الأسبقية للثقافة.
هناك استثناءات في الموضوع لها حلولها، فإذا حاولت تتبع مجاري الحالة أدركت الحل. واعلم أن الظواهر البشرية تهزم علمها. فقد يقول قائل مثلا هناك ثقافات فقير أنجبت غنية أو عكس ذلك. فهذا ممكن ومعقول في ضوء خصائص المشهد البشري.
مثال توضيحي: أسرة فقير ماديا ومعرفيا ومنهجيا أنجبت أبناء متفوقين دراسيا وعلميا وأخلاقيا. لهذه المعادلة حل في الواقع، بل حلول:
- يرجع ذلك إلى نوعية التوجيهات الأسرية التي لقيت ترحيبا من الأطفال. ومستند تلك التوجيهات الوضعية المزرية التي تعيشها الأسرة. تريد من أبنائها أن لا يكونوا كمثلها.
- ربَّت الأسرة أبناءها على الإصغاء للنصائح والتوجيهات المقدمة من المعلم والكبير، فصادف نصح معلم أو كبير قبولا من الابن.
- خواء الثقافية البيتية جعل الطفل الأطفال يبحثون عن مزود آخر، فصادف ذلك مزودا حسنا.
ثم اعلم رحمك الله أن التربية لا تكون دائما صريحة واضحة المعالم في أذهان المربين/ الآباء، فمنهم مدربون ممتازون لكنهم لا يعون بمكانتهم ونجابتهم في الميدان. وثمار قوتهم الخفية تظهر جلية في أبنائهم. وقد يكون الابن الواحد قائدا لإخوانه نبراسا مضيئا للطريق. فالجهد الذي يجب أن يبذل مع الابن الأول أكبر من غيره، ومحدد أساسا لمسار إخوته...ثم إن حالة الأسرة لا تأخذ مسارا واحدا، فقد تنطلق بقوة ثم ما تفتأ أن يعتريها الضعف، وقد يظهر عنصر فيها يكون محفزا وعامل قوة يجدد حيويتها. وهناك عوامل كالطلاق والمشاكل الأسرية وفقدان أحد الأبوين، التي تقلب ميزان الأسر قلبا...زد على ذلك أن الطاقة التي تتوافر للابن الأول غير التي تتوافر للابن الأخير، الذي ولد بعد عشرين سنة، والأمر هنا يختلف حسب الحالات، فمن الأسر أسر تستفيد من تجربة العمر فلا يكون الكبر عامل ضعف، بل عامل قوة. وقد يحصل الخلف عند آخرين...
معظم الناس لا يفكرون
ü التفكير والتدبر والتعقل بعيد المنال عن خاصة الناس بله عامتهم.
ü جلَُّ الناس لم يفكروا مذ ولدوا؛ أقول لم يفكروا؛ وأنا على يقين من قولي هذا.
ü إن الناس يتصرفون بناء على الموجود في ثقافتهم؛ يتوارثون التصرفات والأخلاق والمشاعر؛ وهذا ليس تفكيرا.
ü التفكير ثقافة من النوع الممتاز؛ وهو سمة خاصة بأصناف معينين.
ü التفكير تدريب ورياضة وجهد ومثابرة من نوع خاص.
ü التعامل مع المعادلات الرياضية والفيزيائية وتحديد المسافات وتصميم الأشكال على سبيل الاستهلاك... ليس نوعا جيدا من التفكير؛ إنه أردأ أنواعه. لأن جلَّه تفكير نمطي.
ü 1+1=2 ليس تفكيرا؛ بل عادة محفوظة.
ü من ثمرات التفكير التوصلُ إلى الجديد والمفيد في العاجل والآجل.
ü بالتفكير الفعال نخترق المألوف/ الضار ونكشف عن الجديد النافع
ü من السمات المميزة للتفكير السليم النظر إلى عواقب الأشياء والأحداث؛ أو ما أسمي بفقه المآلات.
ü المآلات التي يجب أن تفقه متعددة؛ من أعظمها: مآلات الدار الأخرى. فأغبى البشر على الإطلاق المطلق (لا مجال للنسبية هنا) الخاسرون يوم القيامة؛ فذاك هو الخسران المبين.
ü أرى بناء على فكر شمولي أن مصطلح العالم يجب أن يطلق على الزهاد العباد، الذين يلتزمون الإسلام عقيدة وشريعة (عبادات معاملات أخلاقا عقوبات).
ü هبةُ التفكير غير معطاة لكل هابّ ودابّ على الأرض من الناس؛ بل هي معطاة بالقوة؛ فبالإمكان استثمارها والاستثمار فيها؛ لكن الكثيرين لم يصلوا إليها، وإن كانت أقرب ما تكون إليهم؛ والقلة القليلة هم الذين يتفيؤون تحت ظلالها.
ü كثيرون منهم الآن يزعمون أنهم مفكرون؛ لكن هيهات هيهات؛ فبون جليل بين توليد بنات الفكر من رحمها اللب، وأخذها جاهزة أو تبنيها من الغير أو استخراجها من الثقافة المستدخلة قديما.
نقول لهؤلاء إنكم تتوهمون أن المتبنى ابن أصلي؛ ولا تجري الرياح بما تشتهي السفن.
/