Translate

الخميس، 31 مايو 2012

+ نظرة في الثقافة

بقلم حنافي جواد

نظرة في الثقافة

ولم أرَ قط سلطة أخطر من سلطة الثقافة!

    الثقافات متعددة وليست واحدة؛ فمن الخطل المنهجي والفني الحديث عن الثقافة بالمفرد والتعامل معها مستقلة، فهي كلّ ٌمتكامل منسجم متناغم، وإن بدا بينها التناطح والتدافع أوقاتا.

   الثقافة هي كل ما يلفيه الإنسان بعد خروجه إلى الوجود؛ وكذا كل ما يشارك في إنتاجه واستهلاكه؛ والناس في المشاركة درجات، فمنهم المقل ومنهم المكثر ومنهم المستهلك وهم الأكثرية!

   حظ الناس في نسْجِ ثوب الثقافة مختلف من شخص لآخر؛ لكن على الإجمال؛ فإن الحظ الأكبر من نصيب فئات خاصة / أو جماعات معينة؛ هم صانعو العقول، هذه صفاتها:
·      الغنى / القوة المادية؛
·      الوجاهة في المجتمع؛
(حظ الضعفاء في الإنتاج الثقافي ضعيف وضعيف جدا، نصنفهم في خانة المشاركين بالاستهلاك)

الضعفاء مولعون بتقليد الأغنياء والأقوياء؛ لماذا؟
·      في نظرهم هم النموذجُ الناجح؛
·      لشيء في أنفسهم يدعوهم دعوة إلى الإعجاب بهم؛ لأن النفس تعشقُ الرفاه والسعة، وتكْره الضعف والفقر، لأنه سبب الشقاء والضيق والتعاسة.

    الثقافة مفهوم مركب، يشمل ثقافة الأكل والشرب والنوم والكلام والتفكير وأساليب العيش والتعامل مع الوضعيات الجديدة والمشاكل...
    فهناك ثقافة البيت والشارع والحي والمدينة والدولة، وتعدد هذه الثقافات لا يمنع من تعميمها في صيغة عامة موحدة، فمثلا الثقافة الإنسانية تختلف عن الثقافة الحيوانية؛ نعم للحيوانات ثقافة تخصهم وتنسجم وخصائصهم، فإذا أردت أن تتعرف عليها فدقق اللحظ وكن نزيهاً في أحكامك ثم تخلص من الاستدلال بالتماثل (فلا تجعل نظرك إليهم كنظرك إلى أبناء جنسك، حاكمهم إلى طبيعة عقولهم)

     يستدخل الإنسان الثقافة التي أنتجها بنو جنسه عبر قنوات عدة:- الأسرة- وسائل الإعلام- الشارع –المدرسة
- الحي... فالإنسان معرض لبرامج الثقافة حيثما حل وارتحل؛ فالثقافة كالهواء...
   تختلف حدَّة البرامج الثقافية باختلاف مصمم/ مصممي البرنامج؛ فمنها البرامج القوية المؤثرة التأثير البالغ؛ ومنها البرامج قليلة التأثير، ومنها البرامج غير الفعالة؛ لكن مع ذلك لها حظها ونصيبها.

  تتكون الثقافة انطلاقا من أسلوبين هامين:
-       الأسلوب العفوي؛ عن طريق التفاعل والانسجام والتداخل بين أساليب الناس وطرائقهم في السلوك والتفكير وفقا للبيئة العامة والوضعيات الاستثنائية. 

-       الأسلوب الاصطناعي؛ وهو أسلوب مدروس ومخطط له من جهات معينة لتحقيق أهداف محددة، وهو الأسلوب الطاغي والمنتشر في العصر المعولم.
 
      يتوارث الناس الثقافة كما يتوارثون لون الشعر والبشرة والطول والنضارة...
لكن عملية الإرث هذه لا تتحقق إلا في ظل مجتمع ورث الثقافة من أسلافه؛ وهذا أمر طبعي. فالغنى يورث والفقر يورث...إنهم يتوارثونه من خلال أساليب التفكير وبرامج التطلعات.
لا يجب أن يفهم من كلامي أن مسألة الإرث هذه مطردة وشاملة للحالات كلها: فالأصل أن يرث الإنسان الغنى/ الفقر، لكن المحافظة على الإرث رهينة بالشخص نفسه والعوامل المؤثرة التي تحيط به. فقد يسلك مسارا يبدد ثرواته أو يقويها.

   من بنات نظري: أن الطبيعة البشرية عند التقادم تصبح ثقافة والثقافة ُطبيعة.ً فالطبيعة في حقيقتها رواسب ثقافية قديمة. فيمكن نقل الجبال من موضعها حجراً جحراً ولا يمكن[1] نقل ما ترسب عند الناس من عادات وتقاليد، ذلك أنها أصبحت قطعة منهم وجزء لا يتجزأ من كيانهم؛ يألفها الجسم إيلافا.

   الثقافة التي تروج في العالم اليوم ثقافة الأغنياء والأقوياء؛ ثقافة الرجل المسيطر الذي استطاع أن يغري الناس والعالم. وأقصد بالثقافة في هذا السياق الثقافة العرضية الشكلية السلبية؛ زبالة الثقافة، إن صحَّ التعبير؛ ثقافة اللباس؛ ثقافة الأكل؛ ثقافة الرقص؛ ثقافة الجنس بالمعنى السالب؛ إنها ثقافة المظاهر والشكل.

    للثقافة سلطة قوية وقوية جدا؛ وأخص بالذكر الذين لا يتحصنون بالحصانات اللازمة، وكذا الذين لا يجددون مناعتهم بين الفينة والأخرى؛ ذلك أن الأشكال السلطوية التي تظهر بها الثقافة تتباين من وقت لآخر؛ فضلا عن أن منطق القطيع يحكم البشر كما يحكم الأنعام؛ وهذا من مقتضيات الطابع الاجتماعي للبشر.

  كيف تتوقع الانعزال والهروب إلى الأمام أو إلى الوراء؟
فلا انعزال ولا هروب لأن الثقافة تحيط بصاحبها من كل حذب وصوب؛ من كل جانب، لأنها إرث، ومن الصعب التخلص من الإرث أو الاستغناء عنه.  ومن هنا نفهم سرا صغيرا من أسرار مشروعية الهجرة في الشريعة الإسلامية...

   بل كيف سيخطر بالبال الهروب وفي القلب ثقافة تملأه عن آخره؟ 
   بعض الفرص سانحة؛ لكنها قليلة. إننا نتصرف على ضوء ما تمليه الثقافة التي ارتضعنا- بل ونرتضع الآن- لبانها؛ فهي التي شكلت الفكر، وبناء على الفكر يكون السلوك. ولن يكونَ نتاج الفكر إلا ثمرات من شجرة الثقافة، تلاقحت عناصرها وانصهر بعضها ببعض فأنتجت ما أنتجت. 

لا يمكن للعقل أن يفهم مسألة من المسائل إذا لم يجد في الثقافة ما يعينه على فهمها أو يؤسس لها؛ وبكلمة أخرى إن العقل يقيس الجديد من المسائل على قديمها المتوافر في الثقافة. هذه العملية عقلية بامتياز؛ تدركها إدراكا إذا وقفت على نفسك وأنت تفكر في نازلة أو حادثة.

  ما وجدت أدق من حديث أبي فهر محمود محمد شاكر عن الثقافة. قال:

" فإن الثقافة، فاعلم، تكاد تكون سراً من الأسرار الملثمة
في كل أمة من الأمم وفي كل جيل من البشر. وهي فــي
الأصل الراسخ البعيد الغور، معارف كثيرة لا تحصى،
متنوعة أبلغ التنوع لا يكاد يُحاط بها".
(المتنبي رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. دار المدني بجدة.
الطبعة 1987مـ/ 1407هـ   ص: 28 )
 ثم قال كذلك:
" ولا يغررك ما غُريَ به، أي أولع، بعض المتشدقين المموهين: « أن القاعدة الأساسية في منهج ديكارت، هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل

بحثه خالي الذهن تماما مما قيل» ( في الشعر الجاهلي) فإنه شيء لا أصل له، ويكاد يكون، بهذه الصياغة، كذبا مصفى لا يشوبه ذروٌ من لصدق (والذرو: دقيق التراب) ، بل هو بهذه الصورة خارج عن طوق البشر. هبه يستطيع أن يخلي ذهنه خلوا تاما مما قيل، وأن يتجرد من كل شيء كان يعلمه من قبل، أ فمستطيع هو أن يتجرد من سلطان " اللغة "التي غذي بها صغيرا وبها صار إنسانا ناطقا بعد أن كان في المهد وليدا لا ينطق؟
أ فمستطيع هو أن يتجرد من سطوة الثقافة التي جرت منه مجرى لبان الأم من وليدها؟ أ فمستطيع أن يتجرد كل التجرد من بطش الأهواء التي تستكين ضارعة في أغوار النفس وفي كهوفها، حتى تمرق من مكمنها لتستبد بالقهر وتتسلط؟ = كلام يجري على اللسان بلا زمام يضبطه أو يكبحه، محصوله أنه يتطلب إنسانا فارغا خاويا مكونا من عظام كسيت جلدا، لا أكثر!!"
(المتنبي رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. دار المدني بجدة. الطبعة 1987م/ 1407 ص: 29 – 30 )

فصل: نظرة تشريحية في الثقافة
      الثقافة لغة يجدها الطفل عند وجوده. واللغة لا تدرك إلا بالفعل. فالعادات لغة والمشاعر لغة والأفعال لغة والإشارات لغة وتقاسيم الوجه. إنها لغة بمعناها العام. لا تثبت معاني الألفاظ والكلمات إلا إذا صاحبتها الأفعال، لتستقر في الذهن واضحة بينة.
الثقافة عملية تراكمية منظمة، وأساس هذه العملية انضمام العناصر الثقافية إلى بعضها، من خلال قانون التكرار والإيلاف والقدوة (النموذج العملي للفعل)

       تقع عناصر الثقافة على بعضها؛ والطيور على بعضها تقع؛ فيحصل الترسب والتشبع، فتنسجم النظرة والفكرة والطموح مع المستبطنات من الثقافة.
التشابه الحاصل بين أصحاب الثقافة الواحدة راجع إلى وحدة اللغة الثقافية. أقصد هنا بالتشابه التشابه الكلي الأساسي لا الجزئي الثانوي.

  الأسس الثقافية الأولى تتكون في مراحل النشأة الأولى، من الولادة إلى سن العاشرة على أقصى تقدير. تتكون آنئذ الخلايا الأولى للثقافة للمعينة، فتستقبل ما يخدم الأصل ولا يناقضه. إنها مسألة مسار وتوجه. ثم نشير في هذا السياق إلى مسألة مهمة وهي أن الثقافة مهددة بوحش الهوى، خصوصا إذا كانت ثقافة مستقيمة. إذ هي قابلة للميلان مع المنحدرات التي يميل إليها الإنسان بطبعه، بصرف النظر عن الثقافة التي تلقاها. فجانب الانحدار في الثقافة أرجح من جانب الرقي والصعود، لذا فالثقافة الفاسدة تلقى القبول في تجارب متعددة.

      من المفروض أن الأسرة هي التي تؤسس للغة الثقافية الأولى، وقد تنافس من جهات أخرى، بل قد ترغب بطيب نفس في قبول مشاركين في عمليات بناء الأسس الأولى؛ إما عن اقتناع أو سلطة رمزية سحرية ناعمة (الإعلام).

      تغير الأسس الثقافية من أصولها، عملية عسيرة، لكنها ممكنة. عسيرة لأن اقتلاع الجذور واستنبات أخرى يتطلب وقتا جهدا وقناعات ضخمة، وقوة تحكم كبيرة، وأظن أن العملية لن تكون على أتم وجه لأنه من الممكن أن يعود أحد الجذور القديمة إلى الحياة مرة أخرى.

     هناك ثقافة الغنى وثقافة الفقر وثقافة التفوق وثقافة التأخر وثقافة الإيمان وثقافة الإلحاد...من حظ بعض الأطفال أنهم نشؤوا في حضن ثقافة غنية، ومن سوء حظ آخرين أن نشؤوا في ثقافة فقير.
فلو كان هؤلاء مكان أولئك لاستفادوا مما استفاد منه غيرهم، لأن الثقافة تصنع التربية والتربية تصنع الذكاء.
الثقافة تغني وتفقر؛ مجازا لا حقيقة؛ لا في ذاتها بل في بعض عنصرها، لأنك كما عرفت فالثقافة ثقافات منها عناصر تخدم الاقتصاد وعناصر تخدم الاجتماع والفكر والسياسة والعلاقات والمشاعر والتعامل مع الذات والبيئة...إن الغنى يورث وكذلك الفقر من ناحيتين:
الناحية الأولى: ما يورث عن الأقارب من أموال وعقارات...
الناحية الثانية: الفكر الاقتصادي، وآليات التعامل مع المال واستثماره...
فقد يضيع المال إذا لم يك وراءه فكر اقتصادي يدبر ويسير ويدير.

     وما قلناه عن إرث الغنى والفقر نقوله مثله عن إرث التفوق والجهل والإلحاد والإيمان وأسباب اللياقة...وتتداخل في هذا الأمر ثقافة البيت والمجتمع بل والعالم، ولكن الغلبة والطغيان يكون للأسس الثقافية الأولى فهي أقطاب مهمة محددة لشكل وحجم البناء الثقافي.

     علاقة الثقافة بالمحيط حميمية، فالثقافة تصنع المحيط والمحيط يصنع الثقافة ويخدمها ويطورها... لكن الأسبقية للثقافة.
هناك استثناءات في الموضوع لها حلولها، فإذا حاولت تتبع مجاري الحالة أدركت الحل. واعلم أن الظواهر البشرية تهزم علمها. فقد يقول قائل مثلا هناك ثقافات فقير أنجبت غنية أو عكس ذلك. فهذا ممكن ومعقول في ضوء خصائص المشهد البشري.

    مثال توضيحي: أسرة فقير ماديا ومعرفيا ومنهجيا أنجبت أبناء متفوقين دراسيا وعلميا وأخلاقيا. لهذه المعادلة حل في الواقع، بل حلول:
- يرجع ذلك إلى نوعية التوجيهات الأسرية التي لقيت ترحيبا من الأطفال. ومستند تلك التوجيهات الوضعية المزرية التي تعيشها الأسرة. تريد من أبنائها أن لا يكونوا كمثلها.
- ربَّت الأسرة أبناءها على الإصغاء للنصائح والتوجيهات المقدمة من المعلم والكبير، فصادف نصح معلم أو كبير قبولا من الابن.
- خواء الثقافية البيتية جعل الطفل الأطفال يبحثون عن مزود آخر، فصادف ذلك مزودا حسنا.

   ثم اعلم رحمك الله أن التربية لا تكون دائما صريحة واضحة المعالم في أذهان المربين/ الآباء، فمنهم مدربون ممتازون لكنهم لا يعون بمكانتهم ونجابتهم في الميدان. وثمار قوتهم الخفية تظهر جلية في أبنائهم. وقد يكون الابن الواحد قائدا لإخوانه نبراسا مضيئا للطريق. فالجهد الذي يجب أن يبذل مع الابن الأول أكبر من غيره، ومحدد أساسا لمسار إخوته...ثم إن حالة الأسرة لا تأخذ مسارا واحدا، فقد تنطلق بقوة ثم ما تفتأ أن يعتريها الضعف، وقد يظهر عنصر فيها يكون محفزا وعامل قوة يجدد حيويتها. وهناك عوامل كالطلاق والمشاكل الأسرية وفقدان أحد الأبوين، التي تقلب ميزان الأسر قلبا...زد على ذلك أن الطاقة التي تتوافر للابن الأول غير التي تتوافر للابن الأخير، الذي ولد بعد عشرين سنة، والأمر هنا يختلف حسب الحالات، فمن الأسر أسر تستفيد من تجربة العمر فلا يكون الكبر عامل ضعف، بل عامل قوة. وقد يحصل الخلف عند آخرين...  
  
معظم الناس لا يفكرون
ü التفكير والتدبر والتعقل بعيد المنال عن خاصة الناس بله عامتهم.
ü جلَُّ الناس لم يفكروا مذ ولدوا؛ أقول لم يفكروا؛ وأنا على يقين من قولي هذا.
ü إن الناس يتصرفون بناء على الموجود في ثقافتهم؛ يتوارثون التصرفات والأخلاق والمشاعر؛ وهذا ليس تفكيرا.
ü التفكير ثقافة من النوع الممتاز؛ وهو سمة خاصة بأصناف معينين.
ü التفكير تدريب ورياضة وجهد ومثابرة من نوع خاص.
ü التعامل مع المعادلات الرياضية والفيزيائية وتحديد المسافات وتصميم الأشكال على سبيل الاستهلاك... ليس نوعا جيدا من التفكير؛ إنه أردأ أنواعه. لأن جلَّه تفكير نمطي.
ü 1+1=2 ليس تفكيرا؛ بل عادة محفوظة.
ü من ثمرات التفكير التوصلُ إلى الجديد والمفيد في العاجل والآجل.
ü بالتفكير الفعال نخترق المألوف/ الضار ونكشف عن الجديد النافع
ü من السمات المميزة للتفكير السليم النظر إلى عواقب الأشياء والأحداث؛ أو ما أسمي بفقه المآلات.
ü المآلات التي يجب أن تفقه متعددة؛ من أعظمها: مآلات الدار الأخرى. فأغبى البشر على الإطلاق المطلق (لا مجال للنسبية هنا) الخاسرون يوم القيامة؛ فذاك هو الخسران المبين.
ü أرى بناء على فكر شمولي أن مصطلح العالم يجب أن يطلق على الزهاد العباد، الذين يلتزمون الإسلام عقيدة وشريعة (عبادات معاملات أخلاقا عقوبات).
ü هبةُ التفكير غير معطاة لكل هابّ ودابّ على الأرض من الناس؛ بل  هي معطاة بالقوة؛ فبالإمكان استثمارها والاستثمار فيها؛ لكن الكثيرين لم يصلوا إليها، وإن كانت أقرب ما تكون إليهم؛ والقلة القليلة هم الذين يتفيؤون تحت ظلالها.
ü كثيرون منهم الآن يزعمون أنهم مفكرون؛ لكن هيهات هيهات؛ فبون جليل بين توليد بنات الفكر من رحمها اللب، وأخذها جاهزة أو تبنيها من الغير أو استخراجها من الثقافة المستدخلة قديما.
       نقول لهؤلاء إنكم تتوهمون أن المتبنى ابن أصلي؛ ولا تجري الرياح بما تشتهي السفن.

/


[1]  وللإشارة فإن "لا يمكن" في المنهج العلمي تحمل داخلها وفي نسقها، إمكانيات متعددة.

+ سلطة[1] التجربة[2]

بقلم حنافي جواد

سلطة[1] التجربة[2]

دراسة نموذج: لماذا تدخن؟ لماذا لا تدخن؟

      السبب الرئيس للتدخين هو كونه تجربة من التجارب، لا أقل ولا أكثر من ذلك. أما ما يسرد في إطار تعليل التجربة فبعيد كل البعد عن الحقيقة والموضوعية...
فالتجربة تفرض وجودها على كل موجود في الوجود.

       أنا على يقين أن عددا كبيرا من الذين لا يدخنون الآن، قد سبق لهم أن فعلوا سرا أو علانية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة / حقيقة أو مجازا؛ والعدد الناجي من قبضة التجربة - الحديدية - قليل وقليل جداً. وأتحدى من قال: لا، وأرميه بالكذاب.

      تحدي التجربة ليس من المسائل السهلة. استدع الآن كل التجارب التي تعرف تجدك مارستها، إلا التي لم تتح لك الفرصة لتجربها، أو كان اللقاح التربوي الذي حقنته فعالا للغاية- وقليل قليل جدا من يصنعه- أو كانت التجربة صعبة كالانتحار.

   اللقاح التربوي أنواع فمنه الفعَّال القوي وغير القوي ومنه غير المؤثر. لكن قوة المؤثر منه تتوقف على قوة التأثير المجتمعي؛ فالجراثيم التي ينفث بها المجتمع تكون أقوى في كثير الأحيان فتبتلع المضادات التربوية.
أما التجارب التي تنزع إليها الفطرة فحدث عنها ولا تحرج.
    
        تجربة التدخين فريدة من نوعها يتدخل فيها عامل الإدمان؛ فليس من السهل لمرتاد التجربة أن يخلص نفسه من قبضتها بسهولة؛ دع عنك إن تقادمت ورسخ قدمه فيها.

     ومن الأخطار التصورية في تجربة التدخين تخيل بعضهم أنه يستحيل التخلي عنه بسبب الإدمان؛ يوهم نفسه بالاستحالة المطلقة، فتضعف قواه الداخلية وتفتر فلا يجرأ على عقد إيمان قوي يدفعه للترك. إن هذا التردد يوهن ويضعف، بل يميت... 

الإشكال إذن إشكال الوجود؛ وجود المثير/ وجود التجربة.
لهذا نجد أن الشريعة الإسلامية حريصة كل الحرص: [3]
             ç   على استئصال الشر من جذوره الأولـــــــــى؛
              ç على تحريم كل ما يؤدي إلى الفساد؛ وتوسيع الدائرة التحريمية لتشمل ما يمكن أن يكون سببا للوقوع في المحذور. من أمثلة ذلك: تحريم الخمر، فإن التحريم شمل شرذمة كثيرة من شارب وعاصر وبائع ومتوسط وناظر وعامل... بلغت الدائرة التحريمية عشرة.

     وبالمقابل وسعت الدائرة المصلحية فاستقبلت ورحبت بالسلوكات والأفعال والأقوال والمشاعر والوسائل... التي تؤدي إلى المصلحة إما مباشرة أو بالواسطة. إنها، على سبيل المثال، وسعت دائرة الجوار لتشمل الجار القريب والبعيد والصاحب بالجنب، ووسعتها كذلك لتشمل الذين يبعدون عنك بسبعين دار أو خمسينا دارا، كما ورد ذلك في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. كما أعطت الأولوية للأخوة العقدية، لتشمل كل من يشهد بالله ربا وبالرسول محمد صلى الله عليه وسلم نبيا رسولا للعالمين، ويلتزم الإسلام شريعة وعقيدة.  

     وجود التجربة / وجود شيء ا سمه السجائر مثلا/ بمثابة سلطة قوية مرهبة مهددة. ويزداد التأثير ويتضاعف المفعول إذا سيقت التجربة في سياقات إشهارية احتفالية. فيزداد الإقبال ويشتد التهافت نحوها، وكلما كثر المقبلون عليها تضخمت السلطة وكانت قوتها الضاغطة كبيرة.

لا يتخلص من هذه السلطة إلاَّ القلة القليلة من الذين طُعِّموا بمضادَّات حيوية فعالةٍ أو طَعَّموا ذواتهم من الخطر بالإيمان والوعي.

      إن لي من اليقين ما يكفي للقول: إن سلطة المجتمع أعظم السُّلط، فهو يصنع ويبني ويهدم من خلال أقطاب معينين تجمعهم فلسفة واحدة- وإن كانوا يختلفون في جزئيات كثيرة، ومع ذلك فأبوهم واحد- يقودون القطيع إلى المراعي التي يرغبون ليحققوا المرامي التي يريدون.

لا يجب أن يفهم من كلامي ذا أن الإقلاع عن التدخين مستحيل أو بعيد المنال. يمكن أن يتحقق ذلك بالإيمان القوي والرغبة الكلية النابعة من أحبار المجتمع ومن صانعي العقول؛ أن يصدر ذلك منهم لا على سبيل الهزل والتملص الذي يضمر في طياته الأبعاد المصلحية المادية قريبة المدى؛ بل على سبيل الحقيقة التي ألفناها كبيرة الوقع على القلوب.

 إن خير الكلام الفعل ولو قلَّ؛ الفعل أولا والقول ثانيا. ومثقال فعل خير من القناطير المقنطرة من الأقوال. كيف يمكن أن نقنع بمخاطر التدخين ونحن نروج له ونربح منه ونعقد عليه آمالنا واقتصادنا ونسمح بالترويج له في أشكال كلها إثارة واستقطاب؟؟؟

خضت في بحور التربية باحثا عن ذُرَرِها فوجدتها أخيرا أمرين:
أ‌)                  تكْرار وإيلاف:بعودك إلى نفسك تجد أن وضعك الحالي نتاج تكرار، إذ يترسب ما كررته في كيانك فيصبح إيلافاً. فتفعل/ تقول/ تشعر على نحو ما ترسب/ تقرر.
ب‌)          قدوة: كلنا يتصرف انطلاقا من نموذج مرسوم في كيانه. والاختلافات آيلة إلى اختلاف النماذج.

فصل
     ليس من السهل التغلب على سلطة التجربة، وأقصد بها سلطة وجود شيء معين أو فكرة أو تصور أو نوع من الشعور...إن وجوده يقتضي تطبيقه وفعله، إن آجلا أو عاجلا. وأميل إلى أنه في غالب الأحيان يكون عاجلا، بصرف النظر عن نوعية المثير أو الإثارة. فقد يخطر ببال أحدهم، يعاني من مشاكل عائلية، أو أزمات نفسية لها علاقة بالقروض...أن ينتحر انحارا جديدا، لم يك متداولا من قبل، بل استقاه من تجارب الانتحاريين الجدد...ولا يهم هنا الوضع المادي، فسلطة التجربة تهزم العنصر المادي. فكما ينتحر الفقراء ينتحر كذلك الأغنياء.

     أما الأسباب الكامنة وراء الفعل أي فعل؛ الانتحار، اللعب، ركوب الخيل، السباحة، التسلق، فآيلة بالأساس إلى سلطة التجربة. هي بؤرة التوتر. وهي العلة الأولى للفعل . فسبب اللعب وجوده، وسبب الزواج وجوده، وسبب الانتحار، بصورة معينة، وجودها، وسبب الإرهاب وجوده، فالتجربة تحدد مسارات الأفعال وتوجهها. هناك مثيرات أخرى تدعو إلى الفعل، لكنها تقع في الدرجة الثانية بعد سلطة التجربة.

     تكون التجربة في حياتها الأولى خاصة بفئة معينة أو نوع معين أو وضعيات معينة... لكنها تتسع لتشمل مجموعات كبيرة، لم تصنع لها التجربة. وتمارسها لأنها وجدت فيها بلاغة وقوة ورموزا لم تجدها في غيرها من التجارب. فمن الصعب تفتيت تجربة ظهرت في الوجود بين عشية وضحاها. إننا نستطيع أن نقلل من قوتها أن نضبطها في حدود معينة، أما استئصالها فلست أراه ممكنا؛ فهناك تجارب قديمة قدم الإنسان، ورثت كابرا عن كابرا.
     يجب أن نفرق بين التجارب المرحب بها في المجتمع والمرفوضة، فالمرحب بها أكثر قوة وأكثر فاعلية، أما المرفوضة فتستمد قوتها من رفضها، فيكون الإقبال عليها تحد وجراءة وقوة...يمكن القضاء على التجارب المرفوضة إذا لم يك لها ارتباط بالذات الفاعلة، أي إذا كانت تتطلب أمورا / وسائل لا تتوافر في الذات. بالإمكان منع الناس من التدخين، ودفعهم إلى الإقلاع عنه إذا تضافرت الجهود من هنا وهناك لحظر زراعة مواده وبيعها والاتجار فيها، ومعاقبة المخالفين العقاب الشديد. وهذا لا يضمن لنا تفكير بعضهم في تدخين أمور معينة، بعيدا عن الأنظار...ورغم ذلك فإن سلطة التجربة ستقل وتضعف إلى حد كبير. فحدود التحكم في التجارب يكون على مستوى الوسائل والمعينات والمؤيدات المادية والمعنوية القريبة والبعيدة، فضلا عن اتفاق مجتمعي؛ لا خلاف فيه. أما إذا تعلق الأمر بتجارب لا تستمد قوتها من عناصر جارجية، بل تتوقف على آليات ذاتية وقناعات داخلية مستقلة عن الخارج، أو لها ارتباط وسيلي/ غير ضروري/ تكميلي بعناصر من المحيط.

     إن عقيدة احترام إنسانية الإنسان، بغض النظر عن توجهاته، هي الكفيلة بالقضاء النهائي على مشاكل العالم بما في ذلك مسألة الإرهابيين والمنتحرين. هذه العقيدة التي يحب أن نعمل جميعا على ترسيخا وبتها في كل أرجاء العالم. وليس من المعقول تثبيت هذه العقيدة ووسائل الإعلام تروج للعنف من خلال مشاهد كثيرة.
إنه هذا البرنامج شمولي يجب أن يفرض فرضا على الدول والحكومات، وأن يعاقب منتهكوه العقاب الشديد. ومن السبل التي لها الأهلية لتفعيل البرنامج وزرعه المدارس والأسر والجمعيات ووسائل الإعلام.

     يتجلى فشل المناهج المدرسية، والمدرسة عموما واضحا، في انسياق المتمدرسين والحاصلين على الدرجات العالية مع تجارب ثبت بالمنقول والمعقول فشلها وقبحها وضررها، لهذا فإننا نقول: إن الشواهد المدرسية لا تحدد الوعي، ولا يجوز اعتبارها مقياسا له. إنها شواهد معملية، وليست شواهد أخلاقية، والأجدر أن تكون أخلاقية، لأن جودة المعمل والعمل لا تتحقق إلا في ضوء الأخلاق والتربية السديدة.[4]
    لا ينماز خريجو المدارس والمعاهد... عن غيرهم، يقصدون المشعوذين، يكذبون، ويزورون، ويحرفون، يأكلون السحت، يقوِّمُون الناس من خلال ما يملكون ... تأمل تدرك أن لا فرق بينهما.
  نَعِي الوعي الكامل بالأخطار التي تهدد المدرسة والأسرة، فالإعلام اليوم مفتوح على مصراعيه طول اليوم للهدم والبناء، وليس إعلاما واحدا، بل إعلامات، تختلف توجهاتها وضروبها وأفكارها...
   أمام ضعف المدرسة والأسرة طغى وحش الإعلام مستغلا الطبيعة الجغرافية البشرية الميالة للمنحدرات ومستغلا، كذلك، المجاعةَ الثقافيةَ ليكتسحَ الساحة ونسق المدرسة والأسرة، فاضطرتا إلى التخلي عن موقعهما.

/


[1] السلطة في هذا السياق يحمل دلالات الإلزام والفرض والتسلط والاضطرار، لكن بالمعنى الرمزي لا المادي.
[2]  التجربة في هذا السياق كل الموجودات المادية والمعنوية، من أشياء وأفكار ومشاعر وتجارب وسلوكات. فاللعب والانتحار والشبكة العنكبوتية والسباحة والاستجمام... كلها تجارب وجودية.
[3] يمكن أن يكتب في الموضوع تحت عنوان: بلسم الإسلام في الإقدام والإحجام.
 [4]  إن نقطة الأخلاق فعل حسن واجب مطلوب عقلا، فالأخلق بالمدارس أن تجعلها من العناصرالأساسية للنجاح، يشهد بها نفر من الأساتذة، ويجب أن يكون معاملها عاليا كيلا يسمح لذوي الأخلاق الفاسدة بالتأهل. نريدها أخلاقا عملية لا نظرية ورقية، تحفظ فتنسى.

+ قانون الغاب في حلته الجديدة

بقلم حنافي جواد

قانون الغاب في حلته الجديدة[1]


إذا أصبح المال سلطة حاكمة مسيرة فانتظر قانون الغاب. الأصل أن الإنسان سيد المال، يثَمِّرُه ويدبره ويتحكم فيه؛ يجعل منه قوة خادمة له؛ من جميع الجوانب الروحية والمادية؛ وخادمة لمحيطه. أما إذا تسلط المال وطغى على إنسانية الإنسان؛ لضعف وجده فيه؛ بحيث صار المال سيداً والإنسان عبداً فإن القوي يأكل الضعيف التهاما.

    وهبَ الله الإنسان قوة عقلية تؤهله ليسير نفسه ويندمج بغيره ويتكيف ومحيطه. فإذا استقامت هذه القوة استقام المحيط وإذا زَلَّتْ فسدت الأوضاع.
    مشاهد الاضطراب متعددة، من صورها اختلال توازن الأجور، وهو دليل على فساد الرؤية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
الأصل العقلي العملي في حقل الأجور أن يؤدى الأجر حسب المردودية العملية، حسب قدر الصلاح الناجم عن العمل المعين، والصلاح في هذا السياق صلاح فعلي لا ورقي: إنه صلاح حقيقي[2]؛ صلاح واقع أو بالتجربة والتجارب والخبرات ثبتت صلاحيته!

من الإجراءات الأولية العملية المعلومة بداهة لدى ذوي العقول- بغض النظر عن الأوراق التي تمنح شهادات في الاقتصاد وعلومه- التدبير والاقتصاد، وبالمقابل حظر الإسراف والتبذير. إن هذين يصنعان قانون الغاب أو يزيدانه ضراوة إلى ضراوة!

   المطالبة بالحقوق في ظل قانون الغاب محفوف بمخاطر من ناحيتين:
                   á  المطالب بحقه ممقوت مهان، إذ إنه مهدد لمصالح المستفيدين.
                   á   المطالب بحقه ظالم من ناحية أخرى غير مباشرة؛ إذ يكون سببا في تفقير فئام أخرى، فما يمنح له يؤخذ من غيره بأشكال يوجد لها في القانون تأويل[3] وتسويغ؛ ينسجم وقانون القانون[4].
فلا معنى لحقوق الإنسان عندما يسود المال.

         ما رأيت ما يطفئ جمرة حب المال والحرص على جمعه- بأساليب شتى جلها غير شرعي- من التعلق بالآخرة والعمل للظفر بالجنة.
فالعقوبات الزجرية والضرب على يد السارقين والسارقات لن يكون حلا نهائيا. فالتربية على القناعة قمينة بصنع العجائب. كما أن التربية لا تتحقق إلا بالتعزيز الإيجابي والسلبي.
  وللإشارة فإن التربية لا تتحقق حقيقة إلا إذا تضافرت كل عوامل التأثير والبناء، موحدة رؤيتها وبرامجها وآخذة بالاعتبار تعدد منافذ التشتيش والتشويش المضمر و الصريح من الداخل والخارج[5].

         المال من أكبر أسباب الطغيان، من أعظم أسباب التفكك والتحلل. إنه-أي المال- إذا أمسكت به يد لها من الأدب نصيبٌ ومن الأخلاق والقيم حظ عظيم سيرته أحسن تسيير ودبرته أحسن تدبير وأصلحت به الأرض والعباد؛ أي إصلاحٍ، قلَّ المالُ أو كثرَ.
     وإذا أمسكت به يد ما لها من الأخلاق نصيب، لكنها ليست شريرة فإنه يقودها ويطغيها؛ ينقلها من وضع إلى آخر أردأ[6].
وإذا أمسكت به يد شريرة فلست في حاجة إلى خبر، فالواقع يغنيه عن كلامي.
  الجشع والطمع وحب المال أفسد نكهة الحياة[7]، فألفينا أنفسنا نحن الفقراء مهددين بالوحوش المفترسة؛ بل أخذت أبضاعا من أجسادنا.
إن المرتفعات تنبئ بوجود منخفضات. فإذا رأيت الغنى يعانق عنان السماء فاعلم يقينا؛ لا مرية فيه؛ أن الفقر ملتسق  بالرغام؛ بل أراه يغوص في الصخور الصماء!

   وآخر كلامي: فليكن مالنا في أيدينا نسوس به لا في قلوبنا لأنه إذا كان فيها قَلَبَ سلطاننا واستعمرنا.[8]
/


[1]  (الجميل) في قانون الغاب أن الأسود لا تؤذي الأسود والذئاب لا تفترس الذئاب والنمور لا تفترس النمور...وذلك كله حاصل في الإنسان صاحب العقل؛ فإنه يفترس أخاه الإنسان وزيادة!
[2]   فعلت الثقافة الورقية في الناس الأفاعيل، فكم حقوق ضيعت؟ وكم أفواه أسكتت؟ وكم بيوت خربت؟ وكم... وكم؟ لو طلب مني وصف العصر لقلت إنه عصر الورق- وخدعة الأزرار!!
[3]   التأويل منه صالح؛ وهو ما ترتب عنه الصلاح في الآجل والعاجل؛ ومنه فاسد؛  وما أفسد العلاقات والتجمعات والأديان إلا تأويلات فاسدة. 
[4]  قال خبير في التشريع: لو طلبت من عشرة خبراء أن يعرفوا القانون فعليك أن تستعد لسماع أحد عشر جوابا".انظر "الإسلام يتحدى" تأليف وحيد الدين خان تعريب ظفر الإسلام خان مراجعة وتحقيق الدكتور عبد الصبور شاهين. دار البحوث العلمية. الطبعة الثالثة 1399هـ / 1979م ص:155
[5]   اعتدنا تفريع بعض المسائل إلى " داخل/ داخلي وخارج/ خارجي" يوم كان الداخل مستقلاً عن الخارج، أما اليوم فلا أرى اعتماد هذا التقسيم في بعض المسائل ذات البعد الاجتماعي لأن الخارج اكتسح عقل الداخل وتلاعب بباحاته. فما يرى الآن ويسمع ويشعر به نسخة مطابقة للأصل الأجنبي؛ لا من حيث الجوهر، بل من حيث القشور وتافهات الأمور.
[6]    إذا تأملت ما تصرف فيه أموال جلهم تجدها في جملتها مكملات الكماليات ومحسنات التحسينيات؛ أو بعبارة أخرى موضحة تجدها من قبيل " الموضة "! ولا تستغرب إن ألفيت ما عددناه مكملات الكماليات ومحسنات التحسينيات في نظر بعضهم من ضروريات الضروريات وأولويات الأولويات! لا يصبك عجب لأن البرمجة التي تلقاها هؤلاء من خلال الحملات الإشهارية المكتفة؛ التي تخصص لها مبالغ طائلة وفرق متخصصة؛ قد سلبت منهم باحة التمييز!   
[7]   يؤول جزء عظيم من أسباب فساد نكهة الحياة إلى طبيعة النظريات الاقتصادية التي بنت فلسها على التصور المادي للحياة، ففرقت بذلك بين أقرب المقربين ومزقت أشلاء الجسد الذي كان من المفروض أن يكون كتلة واحدة. إنهم ينظرون إليك الآن نظرة مادية نفعية؛ يقيمونك/ يثمنونك بعملاتهم؛ إنك رقم من الأرقام. أما ما يُنَادى به بكرة وأصيلا من إنسانية الإنسان وحقوقه... فإنشاء يقصدون به ما يقصدون؛ غير الذي يفهم السذج منا. إن التفكير المادي لا يهدد فحسب إنسانية الإنسان؛ بل كذلك الكون. وأوضح ما أورده- في هذا السياق- مثالا: تعنت قادة بعض الدول المصنعة في قبول مواثيق لحماية البيئة من التلوث. وبذلك يتبين لك قصور التصورات المادية للحياة.
[8]   لاحظ بعين عقلك أسباب النزاع والتوترات تجد وراءها مالا أو جاها يوصل إلى المال.

+ الجمال وفساد الرؤية

بقلم حنافي جواد
     

الجمال وفساد الرؤية


الملكة الجمالية كونية من ناحية وجهوية من ناحية أخرى؛ طبيعية من ناحية وثقافية من ناحية أخرى. 
لكن الجميل يبقى جميلا دائما، والقبيح قبيحا دائما، وإن كان لكل ساقطة لاقطة. فالمرغوب عنه في أمكنة معينة وأزمنة معينة يرى في سياقات أخرى حسنا جميلا مفيدا. لأن الحاجة وشدتها يقلبان الموازين.

      وأضف إلى ذلك أن الجمال إضافي، والقبح إضافي كذلك. فالجميل وسط الجمال غير الجميل وسط القِبَاح، وغير الأقبح وسط القِبَاح فقط. إن الأمر هنا يتعلق بمنطق المقارنة. فيتبين من هذا أن الجمال ينمو ويكبر وفقا لأصله الأول.

     بث الله في البشر قدرات لتذوق الجمال وفهمه. فأصل الأحكام الجمالية مستقر في الباحة الجمالية. وأصل الأحكام القبحية مستقر كذلك في الباحة القبحية. فهما باحتان متجاورتان تستند كل منهما على الأخرى في إصدار الأحكام. إنها لجنة ثنائية تستند في أحكامها على الزاد الطبيعي التليد المركوز في البشر، وعلى الزاد الثقافي التربوي المحيط بالزاد الأصلي.

     ومن أسباب اختلاف الأحكام الجمالية نوعية التربية التي تلقاها المرء. من الممكن أن تظلل التربية الفاسدة الباحة الجمالية الأصلية بظلال يعطلها عن الحكم والنظر السديدين. لكن ذلك لا يمنع من انفلات جزئي أو كلي في وقت ما، فينطق بالحق.

يختلط الجميل بغيره في أحايين كثيرة، منها حالة الغرابة: فالمشاهد الغريبة الجديدة تحمل ما يشبه الجمال، كما أن النافع المفيد، بصرف النظر عن نوعية الفائدة، يحمل ما يشبه الجمال، كما أن السياق يخدع فيحمل ما يشبه مدلولات الجمال، والمظاهر الخارجية، بصرف النظر عن المحتويات الداخلية، تحمل ما يشبه الجمال، فيزعم المتسرع / المتسرعون في الأحكام أن ذلك يحمل الجمال، وذلك ليس كذلك، فهي بنات خيال؛ ليست لها حقيقة.

  وأشير في هذا السياق إلى أن الإعلام قد يصلح الأذواق وقد يفسدها، من خلال قانون: الإيلاف والعادة.


     الجميل في الحقيقة لا يحمل في طياته فسادا. والفساد أو ما يكون سببا له، صريحا وغير صريح، لا يعد حقيقة ومجازا جميلاً. فالجميل ما ثبت عوده بالنفع آجلا وعاجلا. وقد يكون هذا الجميل لوحة فنية أو أنشودة أو منظرا طبيعيا أو مسلسلا أو حديقة أو نصا شعريا أو نثريا...
      يمكن تقسيم الجمال إلى نوعين: جمال معنوي يدرك بعقل القلب، من خلال حسن التعامل. وجمال مادي ملموس مرئي حقيقة، وله تأثيراته الباطنية. والفرق بينهما أن الجمال المعنوي يدرك منه الجمال تلقائيا.
أما المادي فندرك منه الجمال بالواسطة والانعكاس، والأول أكثر كونية من الثاني.

    

   ويمكن تقسيم الجمال المادي إلى: جمال طبيعي، وجمال صناعي، ويتفرع عنهما نوع ثالث، وهو الجامع بين الطبيعة والصناعة، وأصل كل صناعة؛ كما لا يخفى عليك؛ طبيعة.

      حُمِّل معنى الجمال بأمور لا تنتمي إلى الجمال، إذا نظر إليها نظرة شمولية موضوعية. فالمظاهر والصور تخدع، وليس باستطاعة كل الناس النفاذ إلى الأعماق لاستكناهها. ولئن نفذوا فلن يدركوا معرفة موازين القسط والعدل، التي هي الأصل في التصنيف والتمييز، فالميزان الرائج اليوم ميزان الصحة- الصدق والكذب؛ ورزاياها لا تخفي على ذوي عقول القلوب.

      في ظل عالم أفسدته المادة تغيرت معايير الجمال الحقيقية وحلت محلها أخرى مكذوبة خادمة للاقتصاد. فالمادة جملت القبيح وقبحت الجميل. أصبح الجمال صناعة من الصناعات التي تخضع لقوانين السوق العرض والطلب.

   من موصلات الجمال:
العين - الأذن - الأنف- اللمس
 توصل الإحساس بالجمال إلى مركز المعالجة، فتصنع بعد ذلك إجابة  (سرور ظاهر أو مضمر)


الجمال والرغبة الجنسية:
-     يثير جسد المرأة غريزة الرجل، وهناك أعضاء من جسدها أكثر إثارة. كالوجه مثلا. والأمر نفسه بالنسبة للمرأة فإنها تثار بالرجل.
-     اللذة الجنسية متعة وجمالا، إذا كانت تحت غطاء شرعي.

تذوق الناس للجمال:
-     لا يتذوق الجمال ويستلذه إلا من تلقى تربية جمالية، فيدرك قيمة ما يرى ويسمع بعقل قلبه. أما الجمال الجنسي فلا أظن أحدا لا يستلذه إلا أن يكون شاذا، فلا قياس عليه وقتئذ. والميلانُ إلى هذا الجمل وما يرتبط به فطري أصلي في التركيبة البشرية والحيوانية. 

أعود والعود أحمد إلى تأصيل المسألة فيما يلي:
-       قدر مهم من أمهات الجمال مبثوث في عقل قلب الإنسان.
-       الملكة الجمالية تنمو وتكبر وتتقهقر لنوعية التربية التي تلقاها الفرد.
-       الجمال الكامن في الإنسان يظهر في أوقات معينة ثم يختفي.
-       ساهم الإعلام في إفساد الأذواق.
-       الجمال نوعان معنوي ومادي، والمادي طبيعي وصناعي، ومنه نوع بينهما؛ يضم الطبيعة والصناعة.
-       المظاهر تخدع والتفكير الظاهراتي[1] يطغى ويفسد.
-       أصل كل المعايير المصلحة في العاجل والآجل وما أفسد العالم إلا منهج الصدق والكذب. 

فصل: في آثار جمال العمارة  وموقف الإسلام من الزينة
     لجمالية العمارة وحسنها تأثير قوي في سلوك الأفراد في بيئات العمل، فتزيدهم قوة لقوة وتحسن من المردود، لأن الصدور إذا انشرحت وأثلجت أثمرت الثمار الطيبة وغذت الرغبة في العمل.
     ويؤثِّرُ تصميمُ الحجراتِ والبيوتات وترتيبُ الأثاث على التفاعلات الاجتماعية والاستجابات الانفعالية للأفراد والجماعات في هذه البيئات، فالطفل الناشئ في البيت الواسع المنظم الجميل غيرُ الطفل الناشئ في كوخ أو بيتٍ يفتقر للأساسيات، فنفسية الأول غير نفسية الثاني.
     إن الطريقةَ التي توثرُ بها البيئة المحيطةُ بمكانِ العملِ على مستويات الاستثارة عند العمال لها تأثير قوي على أدائهم للعمل وجودته. ويمكن أن يؤدي التصميم الرديء للبيئة الفيزيقية إلى عدم الرضا عن العمل وانخفاض الدافعية إليه وتقهقر المردود.
     وللخصوصية وبيئة العمل المناسبة لمكانة أو مركز الفرد في المؤسسة أو المنظمة أهمية كبيرة لمعظم الموظفين، وخاصة موظفي المكاتب؛ وقد جرت الأعراف بذلك جريانا وسار الناس هذا المهيع زمنا.

      ويعكس التصميمُ المعياريُّ فلسفة المصمم ومن صمم له، إذا كان ذلك وفقاً لذوقه وطلبه لا فرض عليه فرضاً أو اختاره تقليداً؛ وهذا هو الأعمُّ الأغلبُ. يمكن أن نتحدث في هذا السياق عن هيبة المكان، فالمكتب الجميل المصمم تصميما معماريا جيدا يفرض على الناظر الهيبة ويكسي الموظف/ الرئيس الحال به بالاحترام. خلافا للمكان الرديء والتصميم القبيح فإنه مدعاة إلى السُّخرية والاقتحامِ...

    اهتمَّ الإسلامُ بالجمال وحثَّ على تحسين الهيئةِ ونهى عن الإسرافِ والتبذيرِ والانسياق معَ الأشكالِ والأعراف الفاسدةِ.

    فتوزيعُ المالِ في الإسلام خاضع لضوابط صارمة، إنَّه يُوَزَّعُ حسب الأولوياتِ والضرورياتِ، فلا يعقل في الإسلام أن يصرف المال في الزخرفة والأشكال الكمالية وأنواع الزينة ومن الأمة كثيرون يتضوَّرون جوعاً أو لم يجدوا مأوى يأوون إليه.

     المعاييرُ في الإسلام تختلف عن معايير الناس، عن أعرافهم وعاداتهم. إن الأصل في الإسلام النظر إلى الجواهر لا الانسياق مع الأشكال والألوان والزينة. فالمؤمن التقي النقي يحترم الإنسان لأن الله أمره باحترامه، لا للمظاهر والأشكال التي تحيط به. قيمة الإنسان لا تكمنُ في مكتبهِ ولا في الأشكالِ والزخارفِ التي تحيطُ به...وإنما في عدله والتزامه وخوفه من ربه خالقه.

      صحيحٌ إنَّ معاييرَ الناسِ اختلفت وموازينهم اختلت فأصبحت الأشكال مسيطرة على الألبابِ، لذا فالاهتمام بالأشكال ليس مذموما ولا قبيحا إذا كان بالمعروف والعدل.





/


[1]    سؤال وجيه: لماذا يطغى التفكيرُ الظاهري المظاهري (نسبة إلى المظاهر) على الناس في هذا الزمان؟
    حسب زادي الثقافي ومعارفي فإن التفكير الظاهري/ المظاهري يرجع بالأساس إلى التربية المدرسية، والبيت مدرسة، والأسرة مدرسة، والواقع مدرسة والإعلام مدرسة....الميالة إلى الجمال الصوري المنخدعة بالمظاهر والأشكال. فالناس على اختلاف توجهاتهم وثقافاتهم يميلون إلى الجميل الوسيمِ المنظمِ والمنسقِ بغض النظر عن جواهره والمصالح/ المفاسد المترتبة عنه.

      لكنَّ الثقافة القوية والمبادئ السديدة الرصينة يمكن أن تشذِّبَ ذهِ النزعةَ الفاسدة النزاعةَ إلى المظاهر.
 وقوة الثقافة ترتكز على قوة المبادئ التي تستند لها؛ فالتخلص من الجبلة التي تصنعها الثقافة صعب وصعب جدا خصوصا في زمان غدت فيه المظاهر أساً من الأسس.
   أرى أن الذين فرواْ من قبضة النزعة المظاهرية قلة قليلة، إنهم رجال/ نساء معدودون/ معدودات على رؤوس الأصابع؛ وإن كانوا معرضين في بعض الأحايين للنزعة، لكن يستطيعون التحكمَ فيها وحبسها. وفي كلمة" حبس" ما فيها من الدلالات والمعاني.
    النزعة المظاهرية برنامج من البرامج الثقافية المندسة في الأعماق.