بقلم حنافي جواد
قانون الغاب في حلته الجديدة[1]
إذا أصبح المال سلطة حاكمة مسيرة فانتظر قانون الغاب. الأصل أن الإنسان سيد المال، يثَمِّرُه ويدبره ويتحكم فيه؛ يجعل منه قوة خادمة له؛ من جميع الجوانب الروحية والمادية؛ وخادمة لمحيطه. أما إذا تسلط المال وطغى على إنسانية الإنسان؛ لضعف وجده فيه؛ بحيث صار المال سيداً والإنسان عبداً فإن القوي يأكل الضعيف التهاما.
وهبَ الله الإنسان قوة عقلية تؤهله ليسير نفسه ويندمج بغيره ويتكيف ومحيطه. فإذا استقامت هذه القوة استقام المحيط وإذا زَلَّتْ فسدت الأوضاع.
مشاهد الاضطراب متعددة، من صورها اختلال توازن الأجور، وهو دليل على فساد الرؤية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
الأصل العقلي العملي في حقل الأجور أن يؤدى الأجر حسب المردودية العملية، حسب قدر الصلاح الناجم عن العمل المعين، والصلاح في هذا السياق صلاح فعلي لا ورقي: إنه صلاح حقيقي[2]؛ صلاح واقع أو بالتجربة والتجارب والخبرات ثبتت صلاحيته!
من الإجراءات الأولية العملية المعلومة بداهة لدى ذوي العقول- بغض النظر عن الأوراق التي تمنح شهادات في الاقتصاد وعلومه- التدبير والاقتصاد، وبالمقابل حظر الإسراف والتبذير. إن هذين يصنعان قانون الغاب أو يزيدانه ضراوة إلى ضراوة!
المطالبة بالحقوق في ظل قانون الغاب محفوف بمخاطر من ناحيتين:
á المطالب بحقه ممقوت مهان، إذ إنه مهدد لمصالح المستفيدين.
á المطالب بحقه ظالم من ناحية أخرى غير مباشرة؛ إذ يكون سببا في تفقير فئام أخرى، فما يمنح له يؤخذ من غيره بأشكال يوجد لها في القانون تأويل[3] وتسويغ؛ ينسجم وقانون القانون[4].
فلا معنى لحقوق الإنسان عندما يسود المال.
ما رأيت ما يطفئ جمرة حب المال والحرص على جمعه- بأساليب شتى جلها غير شرعي- من التعلق بالآخرة والعمل للظفر بالجنة.
فالعقوبات الزجرية والضرب على يد السارقين والسارقات لن يكون حلا نهائيا. فالتربية على القناعة قمينة بصنع العجائب. كما أن التربية لا تتحقق إلا بالتعزيز الإيجابي والسلبي.
وللإشارة فإن التربية لا تتحقق حقيقة إلا إذا تضافرت كل عوامل التأثير والبناء، موحدة رؤيتها وبرامجها وآخذة بالاعتبار تعدد منافذ التشتيش والتشويش المضمر و الصريح من الداخل والخارج[5].
المال من أكبر أسباب الطغيان، من أعظم أسباب التفكك والتحلل. إنه-أي المال- إذا أمسكت به يد لها من الأدب نصيبٌ ومن الأخلاق والقيم حظ عظيم سيرته أحسن تسيير ودبرته أحسن تدبير وأصلحت به الأرض والعباد؛ أي إصلاحٍ، قلَّ المالُ أو كثرَ.
وإذا أمسكت به يد ما لها من الأخلاق نصيب، لكنها ليست شريرة فإنه يقودها ويطغيها؛ ينقلها من وضع إلى آخر أردأ[6].
وإذا أمسكت به يد شريرة فلست في حاجة إلى خبر، فالواقع يغنيه عن كلامي.
الجشع والطمع وحب المال أفسد نكهة الحياة[7]، فألفينا أنفسنا نحن الفقراء مهددين بالوحوش المفترسة؛ بل أخذت أبضاعا من أجسادنا.
إن المرتفعات تنبئ بوجود منخفضات. فإذا رأيت الغنى يعانق عنان السماء فاعلم يقينا؛ لا مرية فيه؛ أن الفقر ملتسق بالرغام؛ بل أراه يغوص في الصخور الصماء!
وآخر كلامي: فليكن مالنا في أيدينا نسوس به لا في قلوبنا لأنه إذا كان فيها قَلَبَ سلطاننا واستعمرنا.[8]
/
[1] (الجميل) في قانون الغاب أن الأسود لا تؤذي الأسود والذئاب لا تفترس الذئاب والنمور لا تفترس النمور...وذلك كله حاصل في الإنسان صاحب العقل؛ فإنه يفترس أخاه الإنسان وزيادة!
[2] فعلت الثقافة الورقية في الناس الأفاعيل، فكم حقوق ضيعت؟ وكم أفواه أسكتت؟ وكم بيوت خربت؟ وكم... وكم؟ لو طلب مني وصف العصر لقلت إنه عصر الورق- وخدعة الأزرار!!
[3] التأويل منه صالح؛ وهو ما ترتب عنه الصلاح في الآجل والعاجل؛ ومنه فاسد؛ وما أفسد العلاقات والتجمعات والأديان إلا تأويلات فاسدة.
[4] قال خبير في التشريع: لو طلبت من عشرة خبراء أن يعرفوا القانون فعليك أن تستعد لسماع أحد عشر جوابا".انظر "الإسلام يتحدى" تأليف وحيد الدين خان تعريب ظفر الإسلام خان مراجعة وتحقيق الدكتور عبد الصبور شاهين. دار البحوث العلمية. الطبعة الثالثة 1399هـ / 1979م ص:155
[5] اعتدنا تفريع بعض المسائل إلى " داخل/ داخلي وخارج/ خارجي" يوم كان الداخل مستقلاً عن الخارج، أما اليوم فلا أرى اعتماد هذا التقسيم في بعض المسائل ذات البعد الاجتماعي لأن الخارج اكتسح عقل الداخل وتلاعب بباحاته. فما يرى الآن ويسمع ويشعر به نسخة مطابقة للأصل الأجنبي؛ لا من حيث الجوهر، بل من حيث القشور وتافهات الأمور.
[6] إذا تأملت ما تصرف فيه أموال جلهم تجدها في جملتها مكملات الكماليات ومحسنات التحسينيات؛ أو بعبارة أخرى موضحة تجدها من قبيل " الموضة "! ولا تستغرب إن ألفيت ما عددناه مكملات الكماليات ومحسنات التحسينيات في نظر بعضهم من ضروريات الضروريات وأولويات الأولويات! لا يصبك عجب لأن البرمجة التي تلقاها هؤلاء من خلال الحملات الإشهارية المكتفة؛ التي تخصص لها مبالغ طائلة وفرق متخصصة؛ قد سلبت منهم باحة التمييز!
[7] يؤول جزء عظيم من أسباب فساد نكهة الحياة إلى طبيعة النظريات الاقتصادية التي بنت فلسها على التصور المادي للحياة، ففرقت بذلك بين أقرب المقربين ومزقت أشلاء الجسد الذي كان من المفروض أن يكون كتلة واحدة. إنهم ينظرون إليك الآن نظرة مادية نفعية؛ يقيمونك/ يثمنونك بعملاتهم؛ إنك رقم من الأرقام. أما ما يُنَادى به بكرة وأصيلا من إنسانية الإنسان وحقوقه... فإنشاء يقصدون به ما يقصدون؛ غير الذي يفهم السذج منا. إن التفكير المادي لا يهدد فحسب إنسانية الإنسان؛ بل كذلك الكون. وأوضح ما أورده- في هذا السياق- مثالا: تعنت قادة بعض الدول المصنعة في قبول مواثيق لحماية البيئة من التلوث. وبذلك يتبين لك قصور التصورات المادية للحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق