ملف لو كنا نبني معارفنا لما ضاعت منا
نحو
نظرية لبناء المعارف والمعلومات
حنافي جواد
لو كنا نبني معارفنا
لما ضاعت منا.
يشتكي الطلبة
والتلامذة ومختلف الدارسين من ضعف قدرتهم على استدعاء المعارف والمعلومات التي
درسوها في مراحل تعليمية متقدمة. ليس فقط المعارف التفصيلية، بل حتى بعض المحاور
الإجمالية. ويعزون السبب إلى ضعف ذاكراتهم. أو يرجعون ذلك إلى عامل النسيان على
اعتباره سلوكا طبيعيا، أو أن قدرة الذاكرة الاستيعابية لا تتحمل كل ذلك الزخم
المعلوماتي، وكذلك لاختلاف المعطيات والكلمات والأفكار وتعددها، فمنها ذو الاجتماعي؛
واقتصادي والثقافي والذاتي...
سبب هذا الضعف أو العجز ليس آيلاً إلى ضعف
الذاكرة ولا إلى تداخل الأفكار والمعطيات ولا إلى عامل النسيان، ولا غير ذلك من
الأسباب، إنما حقيقته هي أننا لا نمتلك منهجية لبناء معارفنا أو بكلمة أخرى: ليست
لنا فلسفة تعليمية محكمة تؤهلنا لترتيب المعارف والمعلومات والمعطيات التي ندرسها
ونتلقاها، وليس يخفاك أن التنظيم من أس الأسس
في الحياة. فلو أنك وضعت حقائبك في صندوق سيارتك غير مهتم بتنظيمها
وترتيبها لما تحمها صندوقها. لكن لو نظمتها بذكاء وحرصت على ملء فراغات الصندوق
بصغارها...لاستحملها، بل وزيادة. فهذا مثال يوضح دور التنظيم وفائدته. أزيدك شيئا
اعلم أن التكنولوجيا أساسها التنظيم وهي نتيجة تنظيم، وكل ما تراه أمامك في هذه
اللحظة فهو ناتج عن التنظيم وحسن الترتيب والاستثمار، ولولا هذا التنظيم لما كان
للحياة ذوق ونكهة. فمن مجتمع الغاب إلى مجتمع الكهوف إلى مجتمع الخيام إلى مجتمع الدور إلى مجتمع العمارات وغدا ما ندري
ما سيؤول إليه الأمر، وذلك بفضل البناء والتنظيم.
إن المعرفة تبنى ولا تعطى جاهزة. فعندما
نساهم في بناء المعارف والمعلومات التي نتلقاها من مختلف الوسائل المكتوبة
والمسموعة والمرئية....ونضفي عليها صبغتنا الذاتية، ونضعها في المكان الذي يليق
بها في أذهانا يسهل علينا استذكارها متى شئنا. أي يسهل علينا التحكم فيها. أما المعارف
التي نحشدها حشدا إلى أذهاننا، نستدخلها كما هي في مصدرها ولا نحتك بها احتكاك نقد
وتحليل وتفكيك، وإعادة ربط وإدماج... فإنها سرعان ما تذهب مع الرياح فمكانها
الذاكرة الدنيا ولا تتجاوزها. أو حتى إن وصلت إلى الذاكرة القصوى بالتكرار، فإنها
لا تمكث هنالك. ذلك أنها لم تندمج مع غيرها من المعلومات، التي يحتوي عليها الفكر،
فلا تأخذ مكانها المناسب. إن ترابط الأحداث يساعد في تذكرها سواء أكان الترابط
وجدانيا عاطفيا أم تلقائيا أم من خلال إحداث خاصة. إن الترابط يساعد في استدعاء
جميع تفاصيل المادة المتعلمة، كما أن السياق الذي يحدث فيه الخبرة أو التعليم
يساعد في استرجاعها، وذلك لاقتران الحدث أو التعلم زمانيا ومكانيا في سياقها العام [1].
والذي يبني معارفه
يدرك قيمتاه ومكانها ويثمنها، إذن كيف تتم عملية البناء هذه؟
1- الفهم السديد
للمعارف والمعلومات قبل استدخالها للذهن. والفهم هو الربط بين مكونات عناصرها،
والمقارنة بينها، والتساؤل عنها...والفهم يتوقف على عملية تجزئ المعلومات،
والأفكار لتصبح إجرائية ملموسة قابلة للملاحظة. ثم المطلوب تمحيص/ فحص كل جزء على
حدته بعد إرجاعه إلى أصله الأول. وتم آليات لضبط هذا الفهم.
- الانتباهُ والتركيزُ
وتجميعُ الذهنِ. ويتبعُ ذلك تجنبُ الحركاتِ، وكل الشواغلِ بما فيها التفكير في
موضوعِ آخر مجاور للموضوع المنصب عليه بالانتباه.
- التؤدة والتحلي
بالحكمة، وترك العجلة والسرعة، والأحكام القبلية. فقد يبادرك فكرة بسهولة الموضوع
أو أنك سبق أن درست واطلعت عليه في مكان آخر، فينشغل فكره بهذا عن الانتباه،
وسيكون لذلك أثر سالب على فهمك.
- الرغبة في تلقي
المعرفة والاستفادة، أو التعطش إلى طلب الحقائق للإفادة منها. إن درجة حبك المعرفة
والاستفادة لخير دافع إلى اقتناصها، فهذا ضابط خطير يجب التركيز عليه، والتفطن له.
- التسميع والتكرار،
أي القراءة بصوت مرتفع. وكذا التفكير بصوت مرتفع. فكأني بالمسمع يقرأ أولا. وهذا
نشاطٌ مهم للفهمِ، ويسمعُ ثانيا، وبهذا فقد جمع بين الحسنيين.
- الاستعانة بالقلم
لتسجيل الملاحظات وما يراه الدارس مهما في فهم الموضوع. فإن كان كتابا فالأولى أن
يخط بقلمه في هوامشه وحواشيه أو يتخذ دفترا خاصا به. يدون عليه محاوره وجزئياته الرئيسة.
- التساؤل مفتاح أساسي
من مفاتيح الفهم. فالقدرة على طرح السؤال جزء كبير من الفهم، والمتسائل لا بد أن
يجد جوابا. فالذي لا يقدر على السؤال لم يفهم، وإلا فإن فهمه مشوش مضطرب.
كذلك دقة السؤال دليل
على دقة الفهم. ونحفظ:" السؤال نصف الجواب". إن المتسائل واجد الجواب إن
عاجلا أو آجلا.
1- الربط
بين أجزاء الموضوع من جانب ومواضيع أخرى درست قبلا.
فالمعارف تتكامل
ويتأسس بعضها على بعض. وفهمها الكامل يكون عندما تستدعى المعلومات والمواضيع
الأخرى باعتبارها مكملات للفهم والموضوع. فالتفكير السديد هو الذي يتناول الأمور
في كليتها: فليس ثمة فواصل/ حواجز بين الحقول؛ بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي
والنفسي والفني والثقافي... كل ذلك يتلاقح ويؤثر بعضه في الآخر. فلنعلم أن الأصل
في الأشياء/ مادية كانت أو معنوية/ التداخل والانسجام والتلاقح، أما التقسيم
والتفريع فهو كائن لغايات تربوية تعليمية.
بين الحفظ / والاجتهاد
الحفظ: وهذا الأسلوب
في التعليم والتثقيف لا يعنى إلا بحشو الذهن بالمعلومات. ومخرجاته في أحسن الأحوال
متعلمون ذوو اتجاهات تهتم بتكديس النصوص في الذاكرة دون النظر في محتويات النصوص
وفائدتها في تحسين ظروف المتعلم وزيادة قدراته على التعلم الذاتي[2] .
فرق كبير وكبير جدا
بين من حفظ بطريقة ببغائية قاصرة ومن يفهم ثم يعبر بطريقته ويتدخل بعبارته ويحذف
ويضيف ويكمل. ويمكن تركيز أهم الفروق فيما يلي:
- الفهم
يكسب الطفل ذهنا متحركا قادرا على التكيف مع الجديد.
- الحفظ
يجعل الرجل/ الطفل/ المتعلم عموما مقلدا معلقا بغيره.
- الفهم
يكسبه جرأة وحرية، فلا يخشى التصريح برأيه ولا التعبير عنه.
- الحافظ
دائما متأخر عن الركب، لا يقول إلا بعد السماع، يعيش على أفكار غيره؛ صحت أم
أخطأت. محتقر لنفسه. لا يرى له الأهلية للإدلاء بدلوه في الموضوع أو الأمر.
- الفاهم
يستطيع أن يدخل بفكره غمار موضوعات/ مسائل لم يسبق له أن اطلع عليها باستخدام
كفاءاته وقدراته بينما الحافظ لا ينطلق إلا مما يحفظ/ مما لقح به.
- حفظ
الصم خال من الانتقاد والتمحيص. وما نجهل ما للنقد – البناء من فعالية وتأثير في
بناء المعارف وتكوينها وتجديدها. بينما الفهم داع صاحبه إلى إجالة النظر والنقد.
هنا سؤال طارح نفسه
بإلحاح شديد: كيف بالذي يجمع بين الحفظ والفهم؟
لا نقول له إنك جمعت
بين الحسنين بالنظر إلى الوقت الذي استغرقه في الحفظ، وكان الأحرى به والأخلق أن
يقضيه في فهم مواضيع أخرى، واستيعاب مسائل جديدة، عساها تكون منمية لفكره. وهنا
يجدر بنا أن ننوه إلى أن الفهم نسبي...
فنقول لهذا ثقْ في نفسك ويكفيك الفهم،
ولتشتغل به، وليكن همك المقعد المقيم؛ فذلك أفيد لك وأنجع. لكن ما دامت المدارس
المغربية إلى هذا اليوم تعتمد أسلوب الحفظ، وإن نفت ذلك، فعليك يا مريد النجاح أن
تحفظ وتفهم!
2- تنزيل تلك المعارف
والمعلومات المفهومة على الواقع وإطباقها عليه: أي تحويلها من الشكل النظري غير
الملموس إلى العملي المرئي الملموس. كيلا تبقى صورة في الذهن خالية من المعنى
الواقي من النسيان. فالذي لا ينبني عليه عمل لاغ. فلا يحسن الاشتغال به والانشغال،
فذلك يدخل في خانة الترف الفكري. ألست على وعي بأن معظم الأمور التي تستطيع
استرجاعها بسرعة، متى ما شئت، هي الأمور العملية المتداولة لديك؟ فممارستكها
جعلتها جزء لا يتجزأ منك. إنها ترسبت في ذهنك وأخذت مكانا في قلبك.
فرق بين أن يتداول التلميذ/ الطالب تلك المعارف والقواعد النظرية التي درسها مطبقا
إياها على واقعه ومستفيداً منها في تعلماته وتصرفاته... وبين آخر تركها متراكمة في
ذهنه، فلا يعود إليها، بل منهم من لم يستدخلها إلى ذهنه بعدُ. أن ما ندرسه إنما من
أجل التكيف مع الواقع، وإصلاح ما فسد منه (الاجتماعي – النفسي – الفكري – العلمي –
الفيزيائي...)
فالمعلم
النجيب، محب الخير لتلامذته ومتعلميه، هو الذي يحرص الحرص كله على ربط المعارف
والمعلومات والنظريات بواقع التلميذ/ الطالب. ذلك لكي يفيد منها، وينهل منها ما
يسهل له العيش والتكيف، وليتجنب الأخطاء التي وقع فيها، وذلك من أجل اختصار الوقت.
وهذه هي فلسفة العلوم كلها.
الدرس الناجح هو الدرس الذي ينطلق من
الواقع أكان الواقع اجتماعيا أو ثقافيا أو علميا أو طبيعيا أو فيزيائيا ليخدم
الواقع، ويؤثر فيه، وهكذا دواليك. أما الدرس النظري البعيد فلا يؤت أكله، ولا يفاد
منه، بل إنه يكرس التباعد والفراق بين الكتاب الأكبر الواقع والكتب الصغرى
المقررات. والأصل أن يقرب بينهما، ويجعل الأولوية للكتاب الأصل.
ويكون هذا الانطلاق صحيحا إذا وصف الواقع
وصفا دقيقا علميا. كما هو دون زيادة أو نقصان أو كذب. فكثيراً ما تصور المقررات
الواقع تصويراً غير حقيقي/ كاذب، كما أن وسائل الإعلام لا تعكسه كما هو، بل تعكس
جزءاً منه، والجزء بطبيعة الحال ليسَ كلاً وشمولاً.
كما أن طرح المشاكل يعتبر لبنة أساسية في
التربية والتعليم. طرحها بلا زيادة ولا نقصان، أي طرحها على طاولة المداولة كما هي
ثم تفكيكها وفهمها الفهم السديد. ومحاولة تشخيص موضع الداء؛ وللعلم فإن طور
التشخيص من أصعب الأطوار. وإشعار المتعلمين بصعوبته، وبضرورة التحلي بالحكمة وعدم
التحيز إلى موقف من المواقف، أو حلٍّ جاهزٍ، سالكين مسلك التتبع الدقيق والعلمي، وترك
الفرصة والوقت المناسب لإيجاد الحلول وبنائها.
إشراك التلاميذ في إيجاد الحلول عمل بنائي هام
ومفيد، يجعل من المعارف النظرية معارف عملية مرئية. كما أنه يطرح المشاكل، ولا
تخفاك فائدة ذلك، من حيث الوعي بالمشاكل وتجنبها، ومحاولة القضاء عليها، أو على
الأقل التخفيف منها، كما أن إيجاد الحلول يقتضي توظيف المعارف والمعلومات وبنات
الفكر، واستعمال الدهاء والذكاء وما يستتبعه ذلك من اكتشافات وفهوم جديدة تبنى على
منوالها استراتيجيات ومناهج، والاحتكاك بها مغن للتجربة وموقظ الذهن.
4- نقدها وتمحيصها
وغربلتها:
منهج النقد منهج أساسي
لبناء المعارف، وقد يعني النقد عند بعضهم التسلط على الأفكار والمعلومات بالتفنيد
والدحض والإبطال، وقد يعني كذلك الحرص الشديد على تبيين العيوب ومزالقها وأخطائها
فقط، وهذا ليس هو المعنى التام الكامل للنقد، فهو منهج قائم على أسس وأركان
وضوابط، وليس سلاحا في يد من هبّ ودبّ من الخلائق يستعمله للطعن على آراء الآخرين
ومواقفهم.
النقد سلوك
أخلاقي تقويمي تقييمي للأعمال والأفكار والسلوكات بناء على مرجعية عليا فوق الذات:
إذ لا يليق أن نجعل أنفسنا وأفكارنا المعيار الأول والأخير في نقد تصورات الآخرين
وتصرفاتهم. أو بالأحرى الظن أن بحوزتنا المعارف والآراء التي لا مرية فيها ولا
جدال. فكل من على ظهر الأرض يؤخذ من كلامه ويرد، إلا محمد صلى الله عليه وسلم بهدي
من ربه عز تعالى وجل. إذن فقد يكون الذي ينتقد على صواب وأنت على خطأ. فحذار من
هذا.
إن النقد من أجل النقد سلوك لا معنى له، دال
على مرض صاحبه وأنانيته. فيجب أن يبنى النقد كي يكون بناء، على معطيات وأفكار
سديدة، وملاحظات نافذة سواء أكان نقد إيجاب أو نقد سلب. ونقصد بنقد الإيجاب الحكم
على الشيء أو الفكرة أو الموقف أو الكتاب بالحسن، أي كون صاحبه أجاد أو أفاد أو
أحسن، أو هي الأوصاف جميعا.
لكن يجب أن تشفع هذه
الأحكام بالأدلة والحجج المبرهنة على الحكم والدالة على صحته، مع سوق الأمثلة
والنماذج التوضيحية.
ونقصد بنقد
السلب الحكم على الشيء أو الموقف بالقبح أو عدم الإصابة أو الخروج عن المقصود أو
الخطأ أو المجازفة... أو ما شابه ذلك من الأوصاف الحكمية.
والواجب أن
تشفع كذلك بالبراهين والحجج، والحرص كل الحرص على الدقة فيه، وترك المبالغة.
والاحتراز في استعمال ألفاظ مؤذية جارحة تصريحا أو تلويحا. خصوصا وأن المنتَقَد في
هذه الحال يكون مفرط الحساسية من الألفاظ والتصرفات وحالته النفسية تكون متوترة
إلى حد ما، ذلك أننا لم نتلق تربية تجعلنا نتقبل الانتقاد برحابة صدر وسعته، إذ
تعلمنا من معلمينا أن ما نتوصل إليه حق كله، وأن المنتقد عدو كاره لنا.
من الأشياء التي كرست هذا التصور كذلك طبيعة
الانتقادات التي وجهت إلينا في يوم من الأيام، فعممناها على سائر الانتقادات.
لقد
ووجهنا بانتقادات لاذعة، محملة بسم أقسى من سم الأفاعي. فجرح الأفاعي يشفى، ويبقي
الدهر ما تجرح الألسن. فمنه تكرس هذا التصور.
من أدبيات الانتقاد أن يبدأ بانتقاد الإيجاب
ثم بعده انتقاد السلب، فلا بدَّ بالضرورة من أن يكون كلام المنتقد شيء يحسن
الإشادة به والافتخار من تصرفات المنتقد. وبهذا يمهد للقبول والاعتراف. ويكون ذلك
أحسن وأكثر قابلية للاستجابة إذ قدم في طابق جميل حسن، وفي أوان من الكلمات
المعسولة النفاذة في الأعماق، وأساليب جميلة كلها أدب وتقدير واحترام، صحبة ملامح
وجه كله ابتسامة وسرور، وأسارير ملآى بعبارات الحب وثرية بالصفاء. فابتسامك في وجه
أخيك صدقة...
النقد سبيل قويم إلى تنمية الأفكار وبنائها.
فما كانت الأفكار لتربوا لولا سقيها بماء النقد. فينمو غصنها ويشتد عودها وتوتي
أكلها وهكذا دواليك. فتوقفنا عن نقد أفكارنا وأفكار غيرنا يعني توقف الفكر
والأفكار عن النمو، ويعني كذلك أن الحياة توقفت والحياة لم تتوقف، بل دائما في
تطور واستمرار، والتي توقف حقيقة هي أفكارنا.
هَزُّ الأفكار
وتحريكها بآلة النقد، يكشف لك عن حقائق
كنت تجهلها، وعن تعثرات، الأولى بك أن تسدها وتتممها. فالأفكار، كما علمت لا تكتمل
إلا بالنقد والنقد ثانية. فلا تغترن بالصورة الحالية، أو بالشكل الحالي...فإن بحثت
عثرت بالأفيد والأجود.
سلوك النقد هذا يجب أن يكون ديدننا ومنهجنا،
وأن يكون منهج تلامذتنا وأبنائنا. فهو حاجبنا وحاجبهم من آفة التقليد ومرض المحاكاة، الضارب بأطنابه وجذوره
في ذواتنا وضميرنا. وحتى الذين يدعون أنهم قد تخلصوا منه وانعتقوا من قيده تلفيهم
آخر التطواف مقلدين وهم غير واعين. لهذا قلت إنه ضارب بأطنابه في نفوسنا.
"القصور البشري هو الذي يعطي المشروعية
للنقد والمراجعة والتصريح لهذا فإن كل الإنجازات البشرية، وعلى كل المستويات، وتظل
قابلة للنقد حيث جرت سنة الله في الخلق أن تقوم مفارقة ما بين النظرية والتطبيق
ومن خلال النقد نحاول الارتفاع بالتطبيق إلى مستوى النظرية أو التعديل في النظرية
نفسها"[3].
فله إذاً فائدة مزدوجة. فائدة تقريبية، أي
التقريب ما بين الممارسة والتصور/ بين النظرية والتطبيق. وفائدة أخرى تعديلية، وهي
التي أثبتنا معناها سابقا، وعبرنا عنها بتطور المعاني والمعارف وتنميتها. ونضيف
فائدة أخرى، وهي الفائدة التحفيزية أو التجديدية، ومعناها أنك عندما تنتقد أحدهم
انتقادا فعالا يلقى الإجابة، فإنك تدفعه إلى العمل دفعا، وتحفزه إليه تحفيزا،
فينشط للعمل ويندفع له؛ سواء أكان نقد سلب أم نقد إيجاب. أما التصفيق لكل الأعمال
والأفكار فليس مفيدا لها ولأصحابها، خصوصا إن كانوا من أهل الغرور والإعجاب. العمل
الكامل والفكر الكامل من أعظم الأساطير وأكبر الأكاذيب التي دفعت بالكثير إلى
التقاعس عن المزيد، والركون على الموجود. واختيار الجاهز والسهل.
يذهب كارل بوبر في حثه على السلوك النقدي
بعيدا عن هذا فيقول: "إن منهح العلم منهج المناقشة النقدية، هو الذي يجعل من
الممكن لنا أن نعلو ليس فقط على أطرنا المكتسبة من الثقافة، بل أيضا على أطرنا
الفطرية. هذا المنهج يجعلنا نعلو ليس فقط على حواسنا، بل أيضا على منحانا الغريزي
جزئيا نحو اعتبار العلم كونا من الأشياء
المحددة وخصائصها"[4]
فرغم ما
يكتسي الموقف مبالغة ومجازفة خطيرة، بل إن صح القول غير ممكنة، إذ كيف يعقل أن
يقلب النقد الفطرة والغريزة؟ على اعتبارهما يتضمنان معنى الإنسانية؟ فعندما نتحدث
عن الفطرة وعن الغريزة فنحن نتحدث عن الإنسان، بهذه المواصفات التي نعرفه بها.
ومسُّ التغيير أو التبديل تلك الثوابت سيغير لا محالة من الإنسان، ولن يصبح
الإنسان إنسانا، بل كائنا آخر، ولعل هذا هو الذي دعا كارل بوبر إلى الاعتماد على
أداة الشك أو النسبية" جزئيا" في قوله: " وعلى منحاها الغريزي
جزئيا...". رغم ذلك فإننا نأخذ منه
تأكيده على الفكر النقدي.
فرق بين النظرية والتطبيق، بين القول والفعل.
فكثير من الأمور التي نتبناها وندعي أننا نؤمن بها، لكن عند التطبيق، أي تحويلها
من القول إلى الفعل أو من الاعتقاد إلى السلوك، نجد صعوبة أو بكلمة أدق: لا نفعل
الذي نقول:إذ كيف نصب انتقادنا على غيرنا، معلمينا أو تلامذتنا أو مسؤولينا ...أو
ما شئت وعندما نوضع في المحل، في موقع الفعل لا نفعل الذي نقول؟؟".
مثل هذا كمثل أستاذا كان مكثارا من انتقاد طلبته ويوم حضرنا لمناقشة أطروحته لنيل
درجة الدكتوراه وقع فيما كان يحذرنا منه!!
نفيد من هذا، وما أكثر ما يقال في ذا الأمر،
أننا إذا قصدنا الانتقاد، أن نحرص على تجنب السلوك / الفعل..الذي ننتقده، وأن يكون
آخر عهدنا به هو ذا، أي عند الانتقاد. وإن كنا من فاعليه ومنتقديه فأخذا لذلك بعين
الاعتبار. وعملا عملا بمعية المنتقد على إيجاد الحل معاً. وبحثا بحثا عن سبب
التواني والإهمال.
وآخرا، إذا رغبت في انعاش معارفك، واستثمار
أفكارك استثمارا مربحا فعليك بنقدها ونخلها بين اللحظة والأخرى، فهذا ينميها
ويزكيها. ولا تركن إليها قانعا بها ظانا أنها كاملة تامة، فذلك غير مفيد ومسلك غير
موصل. ثم أضيف أنه يحسن بك لبلوغ التمام النسبي، أن تدون انتقاداتك، في جنبات
كتابك أو في كراسة خاصة بوجهات نظرك في الذي تقرؤه أو تدرسه أو تسمعه أو تشاهد،
افعل ذلك كل مرة ولا تتوان.
واحرص كما
نوهنا سابقا على تدعيم مواقفك بما معك من دليل وحجة. إذا فعلت ذلك تكون شريكا
للمؤلف في التأليف، وللمنظر في التنظير، وللقائل في القول، فإن من شأن ذلك أن
يكسر/ يضعف قوة التأثير. لذا ننصح بمناقشة وانتقاد ما نشاهده في وسائل الإعلام
سينما أو تلفاز... لنقلص تأثير المشهد، وعلى الخصوص إذا كنت بين الأطفال والصغار
في طور تشكل ثقافتهم، وستكون تلك مناسبة لبناء حسهم النقدي.
5- منهج المناقشة
والحوار قادر على بناء المعارف.
لن أخوض في معاني المناقشة والحوار حرصا على
مداد قلمي وبنات جهدي وطاقاتي. فهما من المعلومات من الحياة بالوجود والحضور العقلي
والوجداني. وتلميحي هنا واضح إلى الذين يحلوا لهم ويطيب أن يخوضوا في مثل ذه
المصطلحات والمعلومات مالئين الصفحات تلو الصفحات. تقرأ الكتب والمؤلفات ولا تظفر
بإفادة جديدة إلا بشق الأنفس، وقد تعود من رحلتك لا بخف ولا بخفين.
أعود والعود أحمد إلى بيان مسائل المناقشة
والحوار، أو بالأحرى منهج المناقشة والحوار. فلهما منهج يضبطهما ويؤطرهما ويقننهما
ويجعلهما في مساراهما الصحيح.
المناقشة لا تكون مناقشة إلا إذا تأسست على
أخلاقيات على رأس تلكم الأخلاقيات معرفة المتناقشين أدبيات النقاش، وأخلاقه، منها:
أن تكون قابلا للاقتناع، بفكرة زميله أو رأيه، فإذا لم تتوافر لديه هذه القابلية
فليترك النقاش، ولتقبع في مكانه.
لن يجني هذا وهو حامل
هذه الفكرة إلا النصب أو التعب.
وهذه القابلية غير مرتبطة بالحجة والبرهان،
ولا بالدليل وقوته، بل بأمر في النفس. خذ مثلا متحاوري قناة الجزيرة فما حدث يوما
أن اقتنع أحدهما برأي الآخر. لا لأن القابلية غير متوافرة. وقوة حجة الخصم هنا
ليست هي حاسمة الأمر، ما دام الطرف الثاني غير مقتنع بقابلية الاقتناع. ما دام يرى
ذلك فلن يكون الاقتناع، وعليه فإن النقاش هنا يساوي صفراً.
ومنها أن يدعم رأيه بما معه من الأدلة الدالة
على صواب رأيه وصحته. وأجود الأدلة الأدلة الشمولية، التي تحشد جملة من البراهين.
إنما ذلك أجود لأنه يؤسس لصرح معرفي كبير، ويولد اقتناعا أكبر، إذا توافرت
كما ألمعنا سلفا القابلية. وتتفق معي إذا استحضرت مسألة تداخل المعارف وتلاقحها
وتتزاحم المباحث وتضافرها لخدمة بعضها، فالخطاب السياسي لا يُفهم الفهم الكامل إلا
إذا انظم إليه الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والثقافي والتربوي... كذلك التعليمي
والتربوي لا يفهم إلا باستحضار المناخ الأسري، والمنهج التربوي، وموقع المدرسة
ومحيطه، ونوعية المدرسين فيها، والخصائص، والفروق الفردية والاجتماعية...
فإذا كان دليل زميلك قويا مقنعا فدع الهوى
ووافقه عليه ثم تبنه سلوكا ومنهجا.
عن جهل بعضهم يستمسك
برأيه لأقوال لا ترقي إلى الدليل، فإما هي أوهام وتخيلات أو تجارب ذاتية، لم ترق
إلى مرتبة القواعد والقوانين العامة التي تؤخذ بالاعتبار، فتجده يعاند، بلا حجج،
يخاصم لجعلها صحيحة عنوة. وفي هذه الأثناء يتحول النقاش والحوار إلى خوار ونعيق...
ليس يعني تبنيك للتصور أو الموقف أو الفكرة
مدة طويلة، إلى درجة أصبح فيها هذا الموقف أو التصور كلحمة منك، ليس يعني أنه صحيح
ورأي سديد. هذا الخطأ وهذه المغالطة دفعت بعض كبارنا إلى الاستهانة بتجاربنا
وتصوراتنا نحن الصغار الذين نشاركهم الميدان نفسه. وهذا كذلك راجع إلى مغالطة أخذت
مكانها في فكرنا ونفوسنا وهي الفهم الخاطئ للعمر، أو بكلمة أسهل الخلط بين العمر
العقلي والعمر الزمني، فقد يكون عمرك الزمني ستون سنة، وعمرك العقلي سبعة عشر سنة.
وقد يتذرع بطول التجربة، لكن طولها أو عرضها ليس مقياسا، وإنما العبرة بنوعيتها.
فرب تال بد شأو مقدمي: أي عسى أن يكون الأخير زمانه أفضل من الأول.
إذن
قوة الحجة والبرهان فوق هذا ذاك، فلا عبرة بالسن ولا الجنس ولا بغيرها من
الاعتبارات الواهية والوهمية- فطفلك قد يصيب وأنت قد تخطئ، وتلميذه قد يكون الحق
حليفه وحليفك أنت الغلط...
ومنها أن يكون فاهما للموضوع المتناقش أو
المتحاور فيه فهما كاملا حتى لا يتيه في جزئيات تاركا اللب وبيت القصيد. ويتسنى
هذا الفهم إذا توافر الانتباه وتم الإصغاء وكمل، ومُسحَ الذهن من السابقات من
الأفكار حول توجيه الموضوع.
ومنها أن يتفقا على الاصطلاحات ومعاني
الكلمات الرئيسة في الموضوع كيلا يكون النقاش فيها بعد، أو كيلا تعيقه. وإن كان
كارل بوبر لا يتفق معنا، إذ يقول:" لا جناح في أن أذكر أيضا أن ثمة صورة خاصة
من أسطورة الإطار/ أي من الأكاذيب التي تحجب العقل وتمنع الإنسان من الوصول إلى
الحقيقة/ تتسم على وجه التعيين بسعة الانتشار، وهي النظرة القائلة يجب أن
نتفق، قبل المناقشة على مفرداتنا، ربما عن
طريق تعريف المصطلحات.
لقد ناقشنا هذه النظرة في مناسبات شتى ولا
مجال أمامي لكي أفعل هذا مجددا. فقط أبغي توضيح أن هذه النظرة تعرضها أقوى الأسباب
الممكنة. قصارى ما تستطيعه التعريفات، بما فيها ما يسمى التعريفات الإجرائية هو أن
تحول مشكلة معنى المصطلح محل البحث عن مشكلة تعريف المصطلحات. بهذا يؤدي بنا مطلب
التعريفات إلى ارتداد لا نهائي ما نسلم ما يسمى المصطلحات المبدئية، أي المصطلحات
غير المعرفة، لكن هذه المصطلحات المبدئية، دائما ما تجدها ليست أقل استشكالا من
غالبية المصطلحات المعرفة[5].
لا نتفق مع كارل بوبر في جعله الاتفاق على
المصطلحات قبل المضي في النقاش أمرا معيقا للحوار والمناقشة. وأظنه كان سيتفق معنا
لو أننا بينا له أمرا وهو هذه المصطلحات التي يجب في نظرنا تحديدها، وفي نظره لا
يجب، ما هي إلا آليات وأدوات سنعتمد عليها في نقاشنا، وتحديدها يربحنا الوقت لندخل
في صلب القضية / المسألة.
صحيح أن هذه
المفاهيم يمكن أن تكون محطة نقاش وسبر وتوضيح، لكن إذا كانت هي الهدف الأصلي منه،
أما وهي وسائل فواجب الاتفاق عليها ليسير النقاش في مساره السديد- وإذا اكتشفنا
أنها-أي هذه الوسائل في حاجة إلى نقاش جعلناها هدفا ، في حد ذاتها وناقشناها.
فالنقاش في الجملة مفيد ومفيد جداً.
أما الخوف من أن يؤدي بنا مطلب التعريفات إلى
ارتداد لا نهائي فلن يحصل إذا ما انبنى
نقاشنا على أهداف معينة يرجى تحققها فيه. فنحن لا نميل إلى النقاش التوليدي
اللانهائي لقلة جدواه، إن لم نقل انعداها.
إن الحوار المنهجي مفيد في إبلاغ فكرنا
للآخرين، فحين نمارسه نمارس الحوار على وجهه الصحيح فإننا نفيد ونستفيد، إذ إن
الحوار يفتح مغاليق المعارف، وينقش عليها، ويحفزها ويهزها هزا فتبدي العجائب وتفصح
عن الجديد من المسلمات التي نفضنا أيدينا منها. وظنناها واضحة، لا إشكال فيها.
وهذا يبدو واضحا للمربين والمدرسين فحيثما فتح
حوار أو نقاش ظهر الجديد وبزغ.
فمن خلال الحوار
والنقاش تتضح الأفكار- لنا أولا. وترتقي عقولنا، وتتزن نظرتنا: إنها عملية تعريض
الأفكار والمواقف للتشذيب والغربلة. والنقاش والحوار مع الغير يجعلك تفهم أكثر
مواقفك وأفكارك. ففرق بين أن يكون موقفك تصورا في ذهنك وأن تبديه وتعبر عنه وتفصح
بعباراتك وأسلوبك. وإثر هذا الإفصاح تكشف ذاتك.
يزيد الحوار من قبول التلميذ لأستاذه، والابن
لأبيه، حيث يشعر أن المربي لا يقصي ذواتهم وأفكارهم ومشاعرهم. فمن الهام جدا أن
نجعل الحوار من أسس تربيتنا وتعليمنا، وركيزة من ركائزه. وأن يترك النمط السلطوي
في التربية والتعليم زمن الزامنين وأبد الآبدين. فإنه جرب فما أجدى نفعا، أما حين
نفرض الأمور فرضا جازما، ونلغي مساحات الحوار، ونسد بابه. فإن الاقتناع الحقيقي لا
يكون، لأنك قد عرفت سابقا أن الاقتناع لا يرتبط بالحجة والبرهان بأي رابطة، فهو
يرتبط بالقبول القلبي، فإذا لم يتحقق الاقتناع بالحوار والجدال بالتي هي أحسن فإنه
سرعان ما يتحول إلى التمرد وعصيان. وكما يقول المثل الإنجليزي: من السهل قيادة
الحصان إلى نبع الماء، ولكن من الصعب إجباره ليشرب.
- الحوار
مع الذات: قد يبدو هذا العنوان لأول وهلة
غريبا، لكن بعد تأملكه، وإمعانك فيه تجده أمراً حقيقيا. الحوار مع الذات أولُ حوار، فقبل أن تحاور مع
غيرك حاور مع نفسك، بينك وبينها. اسأل نفسك تجبك وشاورها تشر علي، واستنطقها تنطق
لك، واستبطنها تدل لك بما في بطنها. وقصدي هنا بالنفس ليس الهوى، فهو لا يستشار،
لكن يحاور.
مناقشة الذات وحوارها مفيد في تجديد الأهداف
وتسطيرها. ومفيد كذلك في المساءلة. فاسأل نفسك هل حققت كل الأهداف التي سطرتها. اسألها
هل ما تمتلك من معارف هي لك أم لغيرك أخذتها عنه تقليدا، وهل أفدت في يومك إفادة
أم كل وقتك قضيته في اللهو واللعب...
إنَّ النقاش والحوار أمران مهمان في أي نظام
تعليمي، حتى إنهما ليكونان أكثر أهمية من
الكتاب أحيانا، وذلك لأن المعلومة يمكن أن تحصل عليها من الحوار والنقاش، مثلها
يمكن الحصول عليها من الكتاب خصوصا، ومن خلال الكلمة المطبوعة على وجه العموم، إلا
أنها إذا استخلصت من الكتاب فإنها ستكون عرضة للنسيان، أما إذا ما استخلصت من خلال
الحوار والنقاش ، فإن عمرها الافتراضي سيكون أطول[6].
إنك بتأملك في رأس
مالك من المعلومات والأفكار والمعارف تجد الراسخ منها الثابت في رأسك هو الناتج
منها عن الحوار والنقاش، تأخذ في ذهنك المكان المناسب، وتستحضرها متى ما شئت.
فظروف النقاش/ الحوار
من مكان وزمان، وأحداث مرافقه له، ومشاعر وأحاسيس ومصاحبة... كل ذلك يقوي من
الترميز، ويساعد في التشفير.
4- تدوين المعارف
والمعلومات والأفكار، وتنظيمها، وتلخيصها.
القلم آلة سحرية صدق أولا تصدق، وإذا كان بين
إصبعي طالب علم متصف بالحكمة. فهو آلة تنقش على المعلومات، وتطلبها لتخرج فتخرج
وتجيب طائعة راضية. زد على ذلك أنه مثبتها ومركزها في الذهن والفؤاد، يكبلها
ويربطها إلى جدران النفس، لهذا قيل قيدوا العلم بالكتابة. وإن كنت لا أريد التقيد
الحرفي والنقل، فرغم ما قد يقال فيه فإنه مفيد، والذي أنويه هو إعادة بناء المعارف
والأفكار وتنظيمها، وإضفاء الصبغة الفكرية والذهنية والوجدانية والخاصة بالطالب
عليها.
فليس من
الضروري والواجب أن نبقيها على حالها، كما عثر بها. فثقافة الناس تختلف ولو بزغوا
في بيئة واحدة. ولو كانت لهم الذات الوظيفية نفسها، ولو كانا توأمين حقيقيين من
بويضة واحدة. فلكل وجهة هو موليها فسبحان الخالق الأحد الصمد.
اقرأ فقرة من كتاب ما، ثم اعقل ما استفدته
منه، ثم خذ القلم واقرأ بمعيته. دوِّن ولخص وارسم، وسطر، وعلق... تجد أنك أفدت
أكثر، بل بدت لك معلومات كنت جاهلها في الحالة الأولى.
إنه من
ناحية يشد الانتباه إلى المدروس والمقروء، فيكون عونا على التركيز والبناء
والاستدخال. ومن ناحية ثانية يساعدها على تثبيت المعارف والأفكار. فلا يضر أن يسجل
بقلم الرصاص ما استفيد من الكتاب في جانبه.
والذي أراه
أحسن أن يدون ذلك في أوراق خاصة من نفس الحجم، وعند الانتهاء من الكتاب/ من دراسته،
تودع في ظرف، ويكتب عليه اسم الكتاب وصاحبه، والمطبعة التي نشرته والطبعة. وأن
يعنون الظرف بعنوان. ويدرج الظرف مع أظرفة أخرى في الحقل نفسه المشتغل عليه.
وعليه سيكون الطالب أمام كتب في أظرفة. فبدل أن
يعود إلى أصل الكتاب ومتنه يعود إلى تلك الملخصات والتعليقات، بل لم لا ينتقد الفقرات
المنقولة في أجزاء الورقة... وقد تخصص كراسة لحقل معين، ويشتغل عليه، تملأ، ويصاغ
ما بها من محاور أو عناوين مركزة.
[4]
انظر أسطورة الإطار في الدفاع عن العلم
والعقلانية.تأليف كارل بوبر . سلسلة عالم المعرفة العد 292. ص:87
[6]
انظر
القراءة وقاية وعلاج. د عبد الغني عبود. ص:108. سلسلة شبابنا آمالنا. الدار المصرية.ط:
الأولى.2002/1422