Translate

الاثنين، 18 يونيو 2012

المدرسة - كما يطمح لها.


 إضاءات في المدرسة كما يطمح لها.

                                                                                           حنافي جواد
 المدرسةُ على وزن مفعلة كمأسدة، وهذه الصيغة تكون للدلالة على الكثرة، إشارةً لكثرةِ الدرسِ. لكن ليست العبرةُ بالكثرةِ وإنما بالجودة والفضيلة. والمعيار قدرتها على تأهيلِ الطفلِ / التلميذ/ الطالبِ ليكونَ عبداً لله خدُوماً لوطنهِ وإخوانهِ، وللبشريةِ والكون.

ورأيتُ بعضهُم يقصرُ وظيفة المدرسة في تكييف الفرد مع محيطه، بغض النظر عن نوعية المحيط؛ وهذا تحصيل حاصل؛ فللواقع/ والمحيط القدرة على دمجِ أفرادهِ والتأليفِ بينهمْ على نحوٍ معين، سواء أكانت المدرسة أمْ لم تكن، والتاريخ والحاضر يشهدان لهذا…

نريدها مدرسةً الدَّاخلُ إليها منْشرحٌ والخارجُ منها كذلك، لا كما نرى ونسمع اليوم، حيث دَبَّ القنوطُ بصفوفِ أغلبيةِ التلاميذِ؛ وهمْ بالفَصْلِ وخارجه؛ في ساحة المدرسة، وكذا الأمر بالنسبة لمعلميهم، فأمنية أحدهم أن يؤذَن له بالخروج لتلفيه منْطلقاً مسرعاً، وكأني به فاراً مِن أسدٍ ضارٍ.

   وبعد مغادرتها ينقطع الحديث عنها؛ ليدخل التلميذ / الطالب عالماً جديدا مفارقا، هو عالمُ الحقيقةِ في نظرهم، ولست أنفي دندنةَ بعضهم في موضوعها بلسان مِلْؤُهُ الثقلُ والتعبُ أو الاستخفافُ!

نريدها مدرسةً قادِرَةً على دمْج زبنائها في فضاءِ المثابرةِ والجدِّ والإبداع والابتكار والحيوية. وأنْ تعاملَ الوَافِدين إليها معاملة التاجر الذَّكي زبناءَه، والكريم ضيوفه؛ يوم كان الكرم من شيم المروءةِ. وأن توفِّر لهم المدرسة جواً ومناخاً مناسبين تطمئن له الصُّدُورُ وتسكنُ فيه مُهَج القُلُوب. وأن تفتح صدْرها؛ وليكن رحباً؛ لهمومهم ومشاكلهم فتُعاملهم بالتي هي أحسن، لا أخشن؛  وتخفف عنهم وطءَ ما يتألمونهُ. وأن تكون لهم الأبَ النصوحَ والأمَّ الرؤومَ. وأن تخفضَ جناحيْها لصغارهم وكبارهم  ومحروميهم. وأنْ تنظر إليهم نظرة متحركة؛ فهم ليسُوا وليدي الحين، بل يمُرُّون بمراحلَ وأطوارٍ أفْضَتْ بهم إلى الذي يُرى منهم ويُسمع.(لا يطلب هذا من جدران المدرسة؛ بل من النسَق العامِ المسْهمِ بالقليلِ والمتوسطِ والكثيرِ في حراكها وتسييرها وتدبيرها وتنظيمها...)

من جهل بعضنا التعاملُ مع الظواهرِ بنظرةٍ ثابتةٍ جامدةٍ؛ أيْ منطق سُكوني. فينظر إليها وكأنها وليدة اللحظة، فيلخصها في مُدَيْدَةٍ قصيرةٍ - أي الوقت الذي يُنظر إليها.
       
   فالتلميذ/ الإنسان عامةً؛ الذي تتعاملُ معه؛ مرَّ بمراحل ومحطاتٍ جمة، كُتِبَ لك أن تعيشَ معهُ لحظةً من لحظاتِ حياتهِ وتطورهِ؛ والأخرى من المراحل غابت عنكَ؛ ما تدرك منْها إلا آثارَها وظلالها في سلوكِه وتصرُّفه، ومنهج تفكيرِه وإحساسه، وإذا أنت لم تفترضها ولم تستحضرها كان فهمكَ له ناقصاً وتصورُك عنه مبتسراً، والنتيجة أن تواصلك معه سيكون في مسارٍ خاطئ، وهذا خطأ منا كثير يقعون في شباكه ضحايا تسرعٍ ونظرةٍ جامدةٍ.

  ما أُنِيطَتْ بالأستاذ/ المعلم مهمةُ التربية والتعليم إلا لأنَّ هناك طفلاً / أطفالا في حاجةٍ إلى ذلك.  فمهمته هذه تلزمهُ الانسجام مع هؤلاء الأطفال / الطلبة، والبحث عن السُّبل الكفيلةِ للتواصلِ معهم وتدريبهم؛ وقبل ذلك استقطابهم إليه بالوسائل المختلفةِ والطَّرائقِ المناسبة؛ تساعدُه في ذلك الإدارةُ التربويةُ من جهة، والأسرة من طرفٍ ثان، ووسائل الإعلام من طرف آخر ثالث....

 كلُّ هذا من شأنه أن يمدَّ يدَ العونِ للأستاذ لأداء واجبه؛ وبتضافر الجهود يتحقق المقصود…والله الموفق للصواب.

    قد يتساءَلُ بعضنا؛ ومن حقه السؤال؛ عن هيبة الأستاذ:
§      أين ذهبت؟
§      ومن أذهبها؟
§      ولماذا؟
§      وكيف؟
§      وما هي النتيجة؟

    أسئلة أهمِّيتها ووجاهتها جليلةٌ عظيمةٌ، وللأسف لا يُتَعَامَل معها بجدية؛ مهمة لأن عليها يتوقف نجاحُ المدرسةِ في أداء المهماتِ المنوطةِ بها.

  ولا يخفى علينا أن الأستاذ من بين أهم عناصر العملية التربوية التعليمية التعلمية. وما العناصر الأخرى إلاَّ مؤيداتٌ ومكملاتٌ ومحسناتٌ. ولا ننفي أهمية التلميذ في العملية المعرفية التربوية فإنهُ شريكٌ في المشروعِ التربوي بسهمٍ كبير.

  يَجْمُلُ بنا أن نناقشَ مسألةَ الهيبة من منظور شاملٍ عامٍ، قبل أن نتحدث عن هيبة الأستاذِ؛ فذلك يفيدُنا لإنارة جزءٍ كبيرٍ منْ مَسألتنا.

   فمن خصوصياتِ هذا العصر الجراءةُ والجسَارةُ والانسِجامُ السريعُ. وهذا من الحسنات إذا لم يتجاوز الحدودَ؛ (ومن يتعد الحدود فقد ظلمَ!) ليصبح اقتحاماً وتعدٍ.
 فالخَجَلُ والانطِواءُ منَ الصِّفَات المذمومةِ؛ في الطفل والراشد والكاهل...أما الحياءُ فمطلوب؛ ومن الشِّيمِ الحَسَنَةِ المرغَّبِ فيها، ومن الخَطَلِ الخلْطُ بين الخَجَلِ والحياء، فبينهما البونُ الشاسعُ.

ولعل من دواعي تلك الجسارةِ والجراءةِ؛ التي لم تكُ معلومةً في سابقِ الأيام؛ وكانوا يُدْرِجُونها في زمرة المَذْمومات القبيحاتِ المستهجناتِ اللازِمِ تجنبها من الصغير خصوصا والناسِ عُموما؛ لعلَّ من دواعيها وأسبابها توَافرُ إمكانات الاحتكاك بالناس في مواقفَ كثيرة؛ في المدرسة، وساحاتِ اللعبِ، والحدائقِ والأسواقِ وتقاربِ المنازلِ...وكذلك وسائلِ الإعلامِ... وأَخُصُّ بالذِّكْر الشَّاشَة التي كسَّرتِ حوَاجزَ وهتكتْ ستائرَ وقلبت موازنَ، ورسبت من خلال برامجها ومعروضاتها المادةَ الأوليةَ للتفكيرِ والتصورِ والشعورِ!

وعلى العمومِ فالجسارةُ والجراءةُ والانسجامُ السريعُ؛ وكذا الوقاحةُ من خصيصات أبناء هذا العصر؛ ولا يعني هذا أنها تَنْطَلِي على كل الأطفالِ فمنهم؛ وهم القلةُ القليلةُ؛ منْ تلقواْ برامجَ قويةً خلَّقتهم بالأخْلاَق الجميلةِ فقط.

 من الكذبِ الحديثُ عنْ هيبةِ المعلمِ في عصرِنا هذا. لقد ولَّتِ الهيبةُ والمكانةُ السَّاميةُ والدرجةُ الرفيعةُ؛ وحلَّت محلها الصفاتُ التي لا يحسنُ بنا ذكرها؛ بل إنها من المعلومات من هذا الواقع بالضَّرورة...وفي ذكرها إطنابٌ وإطالةٌ!

  وليس العصرَ السبَبُ؛ وإنما أنَاسِي العصر؛ الذين لهم الحظُّ الوافرُ في بناء وتشكيل الثقافة.
    هذه الثقافة التي يتطبَّع بها سكانُ المكانِ والزمانِ وتسْري فيهم سَريانَ الدَّم في العرُوقِ، فتظهر في صيغةِ سلوكاتٍ ومشاعرَ وطرائقَ تفكيرٍ وتقييمٍ؛ فيترتب عن ذلك الاستلابُ الفكرِي والشُّعوري والسُّلوكي؛ فيزعم الإنسانُ أنَّه مُسيِّرٌ والحَقِيقَةُ أنه مسيَّرٌ من أطراف تتحكم في آليات اشتغاله.
- ويمكن أن تعود للمعلم هيبتهُ إذا أريد له ذلك من صَانِعِي البرامج الثقافية.

بالتعاون يتحقق المقصودُ. بتعاون الأساتذةِ والإدارة التربوية وجمعية آباء وأولياء التلاميذ- الفعليَّة والفعالَّة- والآباءِ والمرشدين التربويين؛ أصحاب العقول النيِّرةِ الذين لا ينساقونَ وراء كُلِّ ناعِقِ من الدَّاخِل والخارج...- سيعود التواصل إلى مساره الصحيح ويتحقق المقصودُ وافِياً كامِلاً إن شاء الله تبارك وتعالى.

    فصلاحُ المجتمعِ من صلاحِ تعليمهِ وفسادُهُ من فسادِهِ؛ وغنيُّ عن البيان أن العملية التعليمية ليست مَحصورةً في المدرسةِ؛ بل تتجاوزها إلى ما بعدها؛ وما أكثر المدارس في أيامِنَا هذه، وأغلبُها غيْر خاضع لرقابةٍ محصِّنة! وإذا لم يكن تم انسجام بين المدارس المختلفة الرَّسميةِ وغيرِ الرَّسميةِ فلتنتظر التِّيهَ والتَّشَرْذُم وأنماطاً من العقول الخشبية المتباينةِ.

      مهمةُ الحارسِ العامِّ يجبُ أن تسندَ لرجل / امرأة كفء حازمٍ صارمٍ قويٍ في شخصه، له من الرغبةِ وفيه من القدوةِ ما يكفي للدفعِ بالتربيةِ والتعليمِ إلى الأمامِ قدماً نحوَ القممِ، لا لمن اختار الإدارةِ للراحةِ أو لأنه تَعِبٌ...

     فعَجَباً كيْف يُتَهاون في هذا الأمر ذي البال العظيمِ، وبالمقابلِ يُرَكَّز على أمُورٍ شكليَّة إلى حَدٍ بعيدٍ... وأنتَ تعلمُ أنهُ اليدُ اليُمنى للإدارةِ بالمؤسسةِ.

      وهذا السلوك الخاطئ الخطير يولِّد متاعِبَ لكل عناصرِ المؤسسة؛ بل مشاكلَ تتعدى جدران المؤسسةِ إلى ما بعدها؛ فيفيضُ التوتُّر منَ الدَّاخل ليتداعى في سائر جسدِ الأمةِ ثمَّ إلَى الكونِ...وما فسادُ الكونِ إلا منْ فسادِ الأخلاقِ!

      ذا كذا منْطبِقٌ على باقي الأطرِ التربويةِ التي يجبُ أن تكون في المستوى المطلوبِ؛ متحليةً بالحلْيَةِ الأدبيةِ والعلميةِ والفنيةِ والتقنيةِ عالمةً بفنون الإدارة - فهُمْ في محل القدوةِ والأسوةِ.

      ورجلُ التعليمِ والتربيةِ على العمومِ لازمٌ أن يكون أنموذجاً واضحاً حسن السَّمْت حكيماً متحلياً بالوسَطِ والاعتدالِ، غير متسرِّع ولا مُتَهوِّر في أحكامه ومشاعره وتصرفاته؛ ثابتَ الخطَى عادلاً لا يحَابي لقُربٍ ودَمٍ...فلا يكفي أن يكون عارِفاً؛ فالمعرفَةُ لا تسْمِنُ ولا تُغْنِي في التربية قدْرَ أنملةٍ إذا لم يَسْبِقْها العمل الحكيم والسلوكُ القويمُ والقدوةُ الحسنةُ والحلمُ والصبرُ...

     التَّحلي بهذه الصِّفات لا يعني التذللَ إلى درجة كبيرة؛ ولا يعني الهَوَانَ والضَّعْفَ كما قد يتخيَّل بعضٌ؛ فذلك كله مُؤَطر بالصَّرامَةِ والحَزم والجدِّ.

    وعلاقةُ الإطارِ التَّربوي بالتلميذ / الطالب يجب أنْ تتجاوزَ جُدْرانَ المؤسسة ممتدةً إلى ما بعدها. يجبُ أن يُكَرِّسَ لهذا السلوكِ الآباء والجهات المسؤولة...
 - فما أطيب لقاءَهم بعد زمنٍ طويلٍ!
 - فيذكرونك وتذكرهم،
 - ويشكرونَ لك جُهْدَك ويثمنونَ سُلُوكَكَ ومَا كَسَا أخلاقكَ من حليةٍ وجمالٍ.
 - بل فما أطيبك عند لقاء ربكَ!


      محيط المدرسة المجاورُ لها والقريبُ منها يكونُ في بعضِ الأحيانِ غيرَ مناسبٍ قطعاً، كأنْ تجدَ بمحاذاتها سوقاً أو لحَّامينَ، أو غَيْرَ ذلك من الفضاءاتِ غيرِ المناسبةِ الواقفةِ حجرَ عثرةٍ أمامَ أداءِ المربينَ واجباتهمْ؛ فالصُّيَاحُ والطرقُ والضجيجُ يكون حائلاً حيلولةً كبرى بينَ الأستاذِ وتلامذتهِ، فيشوِّشُ على فُهُومِهِم وإدْرَاكهم؛ والأدْهَى من ذلك والأمَرُّ وجودُ مزبلةٍ على مقربةٍ من المدرسةِ تعكِّرُ صفوَ الجوِّ وتؤثر في النفسيات وتفعلُ فعلها في خَفَاءٍ؛ وقدْ فصَّل في هَذَا عِلْمُ النفسِ البِيئِيِّ بما فيه الكفايةُ.
- فعن أية جودة تَتَحدثون؟ وما الكفايات التي فيها تدندنون وجبال النفايات بمؤسساتنا تحيط ؟
- فلم يا ترى إهمال هذه المهماتِ والتركيزُ على شكليات، لا تعود بالنفع لا على التربية ولا على التعليم؟
- لماذا يا ترى التهاونُ؟

    والصورةُ الخارجيةُ للمؤسسةِ؛ وكذا الداخليةُ؛ تتركُ انطباعاً لذا التلاميذ والمارة والزوارِ والناس؛ فلو كانت جميلة لاكتسبت هيبةً ووقاراً؛ والخلفُ صحيح.
-      فمن العار أن تكون مدارسُنَا على هذه الحالِ ونحن أمة "النظافة من الإيمان"!

      المحيط الخارجي للمؤسسة، أو غيرها؛ قمين بإكسابها هيبةً ووقارا؛ إذا كان منسَّقا منظما جميلا مثيراً.   فخِلْ معي مؤسسة نظيفة محاطة بالأشجار مزينة بالأزهار مطلية الجدران بالأصباغ؛ وما يحيطُ بها كذلك جميل كلُّه، وأخرى في شكل كوخٍ أو قريب منه.
-  فهل ذلك سيكسب التلاميذ مَهَابةً واحتراماً؟ بل كيف سيكون انطباعهم؟ وما مكان ذلك في التنمية الجمالية وقيمِ الحسنِ في النفوس؟ وما علاقات الكفايات بالنفايات؟!
  
     إن للمحيطِ المحيطِ بالمؤسسة أثراً خَطِيراً وخفياً على مشاعر ونفوس المحتكين بها؛ أكانوا تلامذةً أمْ زواراً أم مارَّةً...فكن على علم بذلك!

     فلا يمكنُ أن نرى الطفل يحبِّ بيئته ويميل إلى تحسينها والمحافظة عليها إلا إذا خضَع إثرَ مراحِل نموِّه لتربية جماليةٍ تصْقلُ ذوقهُ وتزوِّدُه بالنموذج...إلاَّ إذا تربى على حبِّ الخيرِ والجمالِ بدءاً بالمؤسسة التي يجبُ أن تكونَ أنموذجاً للجمال ومثالا له تُربِّي ذوقه الجمالي وتصقل حسَّه الفني.

    والغريب كل الغرابة؛ أن المقررات الدراسية تتوافر على دروس في التربية البيئية؛ تحضُّ على رعايتها وتجميلها، وتبيِّن خطورة تلويثها...وبيئة المدرسة أنموذجٌ للتلوث بامتياز؛ فهذا سلوكٌ شنيعٌ يكرِّسُ للتناقض ويزيدُ التباعدَ بينَ المدروسِ والواقعِ، بين العملي والنظري...ويفسِّر لنا مسألة التناقض بين الأقوال والأفعال التي نشتكي منها ويشتكي منها كلُّ عاقل!

     لا تقتصر مسؤولية المدرسة على تزويد زبنائها بالمعلومات؛ فإن كان هذا شيئا ذا بال، لكنَّه ليس بالمهم جداً، لأنَّ هذه المعلوماتِ النظريةِ لنْ تستمرَّ إذا لم تجد البيئة المناسبةَ للتطبيقِ، ولم يكُ رباطُها بالواقعِ قوياً محكماً.

    فمن واجب المدرسة؛ إذن؛ تقويةُ هذا الرابط وتنمية المهاراتِ وتغذيةُ الإحساساتِ بالجمالِ لتتشَرَّبه فتُفْرِزَهُ. والواجب تركيزُ حب البيئة في النفوس تركيزاً مثمراً لاَ نظرياً ورقياً؛ وذلك من خلال نماذج عملية تتجسدُ بالداخل والخارج المحيط بالمؤسسة...

    ترسيخاً للقيم العملية والمهاريةِ أرى من المفيدِ؛ فائدة عُظمى؛ أنْ تخصص الحِصَصُ الصَّباحية في المدارسِ للدروسِ النظريةِ والتقعيدات والمبادئ والمناهج والأصول، وتكون المسائيةُ عمليةً تطبيقيةً بالدرجةِ الأولى، تكون تنفيذاً وتجريباً للمعطيات النظريةِ المعطاةِ في الحصص الصباحيَّة، للوقوفِ عليها عِيَاناً ولمساً. وهذا في التخصصات كلها الأدبية والعلمية والتقنية والفنية والرياضية...

    وستكون نتائجُ ذلك طبيةً غزيرةً؛ إن شاء الله تعالى، وأكثرَ فائدة للمدرس والناشئة، وستلاحظُ أن استجاباتِ التلاميذِ خلالها مثمرةٌ حسنةٌ، وقدرتهم على الاستيعاب كبيرةٌ، ولا شكَّ أن يكون هذا دافعاً- لبعضهم- إلى الابتكار والإنتاجِ في المجالات المختلفة؛ إذا أحيطوا بتأطير ذكيٍّ ومناهجَ منسجمةٍ معَ قدراتهم وميولاتهم، وإذا ترك أسلوبُ التلقينِ وحفظِ الصُّم قبل الفهم، وإذا لم يُتَّخذْ ذلك ذريعة للَّهو الراحةِ! والله من وراء القصد عالم مطلعٌ فمحاسبٌ، ولكِّ امرئ ما نوى...

   علاقَةُ الإنسانِ بالبيئةِ هي التي تكسبه الخبرةَ والتَّجربةَ والمعلومات. إذا كان هذا كذلك فعلى المدرسة أن تكون على استعداد لخوض هذه التجربة العمليةِ المفيدةِ؛ وليُخلِّ الأَساتذةُ المجالَ واسِعاً للتلميذِ ليَحْتك بالمعلومات فيحَولها إلى معارفَ مفيدةٍ تحملُ بصمتهُ.

فصل في بيان الفرق بين المعارف والمعلومات

    ( فرق شاسع بين المعلومات والمعارف. فالمعارف أصلها معلومات، تحولت بعد اندماجها بالذات العارفة.

      بكلمة أخرى:إن المعلومات لا تكون مفيدةً إلا إذا احتكت بالمتلقي لها، وأدمجها في حصيلته المعرفية، وفهمها وفقاً للسَّقف المعرفي الذاتي؛ أي إن المعلومات تفهم بناء على المعارف السابقة والتجارب القديمة. فلا تطمعْ أن تفهم مسألة من المسائل، ولا فكرة من الأفكار إذا لم يَتَوافرْ لك إطار معرفي ذاتي. فالمعارف ذات طابع بنائيٍّ تراكمي.

تترتب عن هذه المقدمة نتائج، على رأسها:

1-                     المعلومات لا تفيدُ إذا لم تحتك الذات العارفةُ بها، لتتحول إلى معارف؛
2-                     تلقين الأطفال المعلومات لم يعد ذا جدوى؛ فلا بدَّ من الممارسة العملية؛
3-                     تأثيرُ المدرسِ في التلميذِ الطالبِ لا يكون معرفياً، بل معلوماتيا، وهذه المعلومات لن يفيد منها إذا لم يحتكَّ بها. مَثَلُ حاملها كمثل الحمار يحملُ أسفاراً. وأنَّى للحمر أن تفيد مما على ظُهُورِهَا؛
4-                     تأثير المدرس في الطالب يكون على المستويات التالية :
أ‌)      المستوى النفسي؛ يتمثل في:
-       دعمه نفسيا /أو/ إحباطه؛
-       تربيته على التفاؤل/أو/ التشاؤم،
-       تحبيب المادة إليه /أو/ تكريه المادة إليه،
-       كونه نموذجا من النماذج قدوة صالحة/أو/ طالحة.
ب‌)                     المستوى المنهجي؛ يتمثل في:
-       تمكينه من أسس النظام /أو / العشوائية في التفكير والسلوك.
-       توجيهه لتحقيق الأهداف، وكذا مساعدته في بناء أهدافه وفقا لكفاءاته وميولاته/أو/ تضليله عن الجادة،
      ج) المستوى التواصلي؛ يتمثل في:
             - النطق السليم للحروف والكلمات/أو/ النطق السيئ؛
             - الفصاحة في الخطاب وقوة البلاغة/أو/ الركاكة والضعف؛
             - إتقان الإرسال والتلقي /أو/ إيصال الرسائل مشوشة واستباق الأحداث؛
             - احترام الآراء والتصورات/أو/ التعصب للرأي ولو كان خاطئا،
             - التفصيل مع الإيجاز/أو/ الإطناب مع الدوران...

      فمجال التأثيرِ إذا رحبٌ شاسعٌ، لكنْ للأسفِ المريرِ لم نرابط في هذا الثغر بالشكل اللازم والعدد المطلوب، ومِنْ هنالك تسرَّب الخطر!

     بين يدي حقيقة أود الإدلاء بها وإن كنت أتوقع أن الكثيرين سيخالفونني الرأي، وهي:

·      نجابة التلميذ الطالب راجعة بالأساس إلى المدرسة الابتدائية الأولى، وهي البيتُ. والفضلُ والفخرُ والاعتزازُ آيل إلى مدرب الطفل (أب – أم...)، الذي حرَص على تمكينه من الخطة المحكمة واللعب بإتقان. وقد يكون للأستاذ حظ في هذا النجاح ؛ لكنه قليلٌ، ويزيدُ قلةً إذا لم يستغلَّ مجال التأثير الآنفِ الذِّكر؛ أي إذا اقتصر على تقديم المعلومات، ولم يسهم في تداريبِ نقل المعلومات إلى معارف انطلاقا من المستويات السابقة).





 - إن رفض مدارسنا أن تكون أماكنَ للحياة إنما هو بمنزلة انتحارٍ أخلاقي للمجتمع الذي نعيش فيهِ.
 - إن تحويل المدارس إلى مجالاتٍ للممارسة والتطبيق؛ بالمعنى الفعلي للكلية؛ خليقٌ بجعلِ التعليم في مسارهِ الصحيح.

      على المدرسة أن تستغل الأعمال والخبرات والممارسات الميدانية لاكتساب الفهم والإدراكِ اللازمينِ. وإذا كانت طريقة العلم التجريبي قد أظهرت سخفَ ما كان شائعا من فصلٍ بين النظر والعمل؛ وبين الخبرة والمعرفة. فإن من أهمِّ الاعتبارات التي يجب أن تضعها التربية نصبَ عينيها أنه لا وجود لمعرفة حقَّة و فهم مثمر إلا أن يكون نتاجاً للعملِ والفعلِ والممارسةِ والاحتكاكِ؛ وهو ما عبرنا عنه سابقاً بتحويلِ المعلومات إلى معارف.

     إن هذا يعني أن القياس الصحيح لما أحرزه التلميذ من تقدم في عملية التعليم لا يكون بما يقوم به من تسميعٍ داخلَ الفصلِ، أو تَكرار لمحفوظٍ... إنما بقدرته على العمل والنشاط والسلوك القائم على البصرِ والذكاءِ.

    ولذلك فإن إعمال الفكر وحده لا يمكن أن ينتج للمرء قدرة على تحليل الحقائق واستنباطها؛ وإعادةِ تنظيمها لمعرفتها وتفسيرها وتصنيفها وتحليلها واختبارها، بل لا بدَّ من التمرسِ بالأشياء والاحتكاكِ بها لو أرَدْنا أن نعرف عنها شيئاً. بيدَ أن هُنَاكَ من يقول: إن التعليم عن طريقِ الخبرةِ إنما يمدُّ التلميذ بشؤون وأمور جزئية، وهذا واضح غلطهُ فاحشٌ، لأن الحياة تقتضِي الممارسة والفعلَ...

    ومهمَا أحْرزَتِ العلوم المختلفة من تقدم ونمو فإنها لا تستطيعُ أن تصل بين التلميذِ ومعرفةِ الحقيقةِ على المستوى النظري، إلا إذا احتك التلميذُ / الطالب بالمعلوماتِ؛ ومن بعد يحولها لمعارف.
    والحقائق إنما تَتَكَون على نحوٍ جزئي؛ ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نصل إلى معارفَ كليةٍ إذا لم نمرَّ بالمعارفِ الجزئية؛ والنظرِيُّ وحده غيرُ كافٍ.

    إن الأفكار تظلُّ ناقصةً مادامتْ أفكاراً؛ لم تدخل بعد مجال التطبيقِ؛ ومن هنا فهي مؤقتةٌ ومن قبيلِ الاقتراحاتِ؛ والتطبيقُ وحدهُ هو محكُّ اختبارِهَا، وهو الذي يلبسها لباسَ الحقيقةِ؛ ويكسِبُها كَمَالَ المَعْنى.
    ومن ثمَّ كان من الضروري أن تُعنى الحياةُ المدرسيةُ بكثيرٍ مما يمكن أن يكون فرَصاً لتجريب الأفكارِ وتحويلِ المعلوماتِ إلى معارفَ.
 
    وتخطئ المدرسة عندما تقرر مقررات لا توافق ميولات التلاميذ واهتماماتهم؛ أو بالأحْرى لا تنسَجمُ وخصائصَهم العُمريةَ.

    ولسنا ندعو إلى أن تكونَ المدرسةُ تبعاً لرغباتِ كلِّ تلميذ على حدَته؛ فتلبِّيها له؛ فذا غير ممكن. كما أنه من العبثِ أن يُترك للتلاميذ المجال ليختاروا ما شاؤوا ويدرسوا ما رغبوا فيه... لكن يجب أن يكون هناك شبه اتفاق- اتفاق ضمني-  بين الإدارة التربوية والخبراء الفعليين؛ لا أنصاف العقول؛ والتلاميذ؛ فتكون بينهم شراكةٌ تربويةٌ حقيقةٌ، لا ورَقيةٌ مرسومةٌ، تقدمُ  بأساليبَ موهمةٍ بالجديةِ والفعاليةِ في المنَاسَباتِ الاستعراضية حيثُ قراءة التقاريرِ المكذوبةِ...!!

     ومن الأسفِ أن تكون المقررات عاملَ تشتيت لاهتمام التلاميذ وانتباههم؛ ومن تمَّ إضعاف قدرتهم على التفكير والإنتاج فالإبداع؛ وذلك عندما تُقِيمُ برامجهم على أسسٍ بعيدة بعْداً تاماً عن ميولِ التلاميذِ وحاجاتهم... 
      صحيح أنكَ تجدهم في الفصل الدراسي منصرفين إلى أستاذهم بعيونهم، بيدَ أنَّ قلوبهم خارج الفصل تائهة حالمة بواقع آخر مُغايرٍ المغايرةَ كلّها لمعروض المدرسة وبضاعتها؛ والذي شدَّهم إلى الفصل إنما هو الضَّرورة والاضطرار؛ فلا ملجأ لهم غير المدرسة؛ ولا بدِيل؛ ولو كان لهم بديلٌ آخرُ لما قضوا بها ساعةً واحدةً؛ ولتَركوكَ -بأجسادهم- أيها الأستاذ قائما مع الجدرانِ متحدثاً.
- فلتسجوب التلاميذ إن كنت في مريةٍ من أمرك!

     ومن الطرائق التي يذكرها ديوي عندما أنشأ مدرسته التجريبية؛ ذهب يبحث عن تَختٍ/كراسي تناسبُ حاجات التلاميذ من حيث النواحي الفنية الصحية والتربوية فوجد صعوبة في العثور على طلبه هذا؛ وأخيراً أبدى له صاحبُ محلٍ، يبدو أنه كانَ ذكياً؛ ملاحظةً ذكيةً؛ وهي أنَّه لن يجد ما يريده لأنه يريد شيئاً يصلح لأن يعملَ عليه التلميذ وينشطَ بينما سائرُ التَّختِ والكراسي أعدتْ للاستماع والتلقين!!

        يتطلَّب التدريس ليكون منتجا محققا للجودة جملةً من الشروط المادية المتوافقةِ وطبيعةِ المتعلمينَ والمراحل التي همْ فيها، جالباً لراحة التلميذ ومجمعاً لانتباهه وملاكِ أمره قلبه، ومناسباً مستوعباًِ للآفاق ومجرياتِ الزمانِ...

   وشروطاً أخرى أدبيةً تتعلق بالمناهجِ والطرائقِ الأساسيةِ والمكملةِ، والخُطَطِ والمشاريعِ المنسجمةِ وخصائصِ المتعلمينَ، لا المفروضةِ من المعلم أو الكتاب المدرسي أو جهات غريبةٍ؛ فهذه لن تَلقى من التلاميذ إجابة؛ بل مآلها المجُّ والرَّفْض مادامتْ غير متوافقةٍ ومميزاتِ الجيلِ وخصائصَ البيئة التي يعيش فيها المتمدرس.

      دعنا لا نتيهُ في فضاءاتِ التَّمني؛ فتلامذتنا في المدارس تلدغُ الشَّمسُ رؤوسَهُم؛ وأفاعي البردِ تلسعهم، وهيكل الطاولة/ الكراسي تؤلمهُم فلا يطيقون الجلوس عليها ربعَ ساعة بله ساعة، دع أربعا!!

     ولا نعمِّم هذا على كل المدارس فبعضها حُظي بالعنايةِ بوعيِ المشرفين عليها
-لقدرتهم على ذلك- وبعضها الآخر؛ عُني بها لأنها في الواجهةِ...! فمفروض أن يُهْتَمَّ بها.... وليقس ما لم يقل وما أكثره!  فاللهم اهدنا إلى سواء السبيل.

   - فعن أي جودة- إذن نتحدث- إذا كانت ظروفُ العملِ والتحصيلِ غير مناسبة، إنْ لم نقل إنها تقف حجر عثرة أمامه؟

   ولن نحمل المسؤوليةَ أحداً؛ فمن طبْعنا - نحن العربَ - التملصُ منها وإن كنا نحبها تشريفاً وأبَّهة وجنياً للثمارِ الجميلةِ... لا تكليفاً! ولم نكُ نتخيَّلها تكليفاً وعبءاً ثقيلاً ومسؤوليةً وواجباً عظيماً حسابهُ عسيرٌ. كما أن لنا طريقاً رفيعاً في التأويلِ والإلقاءِ بالملامة على الآخرين، وتبرِئَةِ النَّفسِ؛ وإن كنا جميعا طرفاً فيها مساهماً بالقليلِ و بالكثيرِ.













الفصل الثاني: منتوج المدرسة من القيم

   من الصعب الحديث عن القيمِ والأخلاقِ المُنْتَجَة في معملِ المدرسةِ؛ لا لأنها لا تُبلورُ قيماً وأخلاقاً؛ ولكن لاختلاف الناس في تحديد مصطلحي القيمِ والأخلاقِ. فكُلُّهم يتفق على أهَمِّيَتِها وضرورتها للوجود وآثارِهَا الفَاعلة في الكَونِ، لكن موطِن الاختلاف في تحديدِ المصطلحِ والمرجعيةِ التي يُحيل إليها. بل لن ننسى فئة ثالثة لا تؤمن بالقيم والأخلاق بمعناها الروحي والديني، وتؤمنُ بالقيم الماديةِ معتبرةً إياها أساساً وجودياً؛ وحاكمةً على غيرها من القيمِ بالكذب والخرافةِ، لأنها في نظرهم غير مفيدةٍ للتقدم والازدهار المنشودين.

     فتحديدُ اصطلاحي الأخلاقِ والقيم مُعَلَّقٌ بالخلفية المعرفيةِ لأصحابها؛ الأمر الذي جعل المُصْطَلِحِينَ غير منضبطينَ، فتعدَّدتِ التعاريف وتبايَنَتِ الأقاويلُ...كلهم ينادي بالأخلاق ويدعو إليها الدعوة الملْحاحة، لكنه عند الضبط والتحقيق يحصل التدافع والتضارب...فالأخلاقي عند هؤلاء لاغٍ عند الآخرين. ولهذا تجدُني حيران في خوض ذا الميدان:
-       فعنْ أي قيم وأخلاق سنتحدث؟ 
-       وهل يمكن اعتبار المدرسة قناةً لها وحيدةً أم هناك قنوات أخرى؟
-       إذا كان ذلك كذلك فما مكانة المدرسة؟

   لا أسمح لنفسي بأقصاءِ فاعليةِ المدرسةِ في إنتاج القيم والأخلاق، فلها يدٌ في الأمر، لكنها ليست بالطولى.
      إن ثمةَ قنواتٍ أخرى غيرَها لها ذيلٌ طويلٌ في عمليةِ الإنتاج وإعادة الإنتاج والبناء والهدم، قلَّصت من جدواها وكادت تجعلها مكاناً للمعلومات النظريَّة؛ بل هذه القنوات فرضت أخلاقها على المدرسة وأرغمتها على التكيف انسجاما معها.

   فكثيرةٌ هي الأخلاقُ التي تسلَّلت- بل دخلت عنوةً على مرأَى ومسمع من الإدارة التربوية - إليها، إلى ساحتها، إلى فضائها، فبعدَما انسجمت الإدارة والحالة الجديدةَ اضطَرَّ الأستاذُ إلى الانسجام رغمَ أنفه إنْ كان رافضاً. فأصبح الناظر إليها لا يميزها عن الواقع الخارجي.

     أما القوانين الداخليةُ للمؤسسة فتبقى حبرا على ورقٍ- على فرض أن هذه القوانين تحمل في طيَّاتها ما يمكنُ أن نصطلحَ عليه أخلاقاً أو قيماً؛ ولو بالتَّجوزِ اللفظي. وقد يُحْرَصُ عليها في بداياتِ الموسمِ الدراسي؛ لكنْ سرعان ما يُتنازل عنها شيئا فشيئا فشيئا...لا تفتأ أن تفترَ الجهودُ وتعود المياه إلى مجاريها وحليمة إلى عادتها القديمة القبيحة.

    لسنا نجد فرقاً شاسعاً بين خريجي المدارس وغيرهم إلا إذا استثنينا كلمات يعربُ من خلالها أنهُ من المتعلمين؛ كأن يلفظُ لفظاً عربياً فصيحاً يتشدَّق به! أو جملة مفرنسة تتخللها ألفاظ عربية، وهي العَرَنْسِيَّة! أو يُظهر شيئا من محفوظه التليد  نثراً أو شعراً...فأخلاقهم سَوَاءٌ وسلوكاتهم سواءٌ وطموحاتهم كذلك؛ بل وكذا تصوراتهم الأخلاقية...
    ونسجل كذلك أن خريجي المدارس مطبوعون بطابع الكسل- ونستثنيك أنت لأنَّا نعْرِفُ جدَّك- ويصعب عليهم الانسجام مع واقع العمل إذا لم يحصلوا على" وظيفة" : ويعزى جانبٌ من ذا إلى إغفال المدارس الجوانبَ المهاريةَ؛ فَجُلُّ الموادِّ ذاتُ طابعٍ معلوماتي نظري صِرف. وكأنها تهيؤهم ليكونوا ملقنينَ للمعارف مدرسين؛ إنها عملية تأثيثية للعقلية المكتبيةِ!

     أقصى ما يمكن قوله عن خريجي المدارس (قد يكون تلميذا أو طالبا أو أستاذا أو طبيبا...) أنهم عَوامٌ من الدرجةِ الممتازةِ. ويُلاحِظُ ذلك كل من احتكَّ بهم.
ولا تعجبن إن لقيت أمِّيا أميةً أبجديةً له من الأخلاقِ والآدابِ ما ليسَ يتوافرُ في هؤلاء المتعلمينَ الأميينَ أميةً أخلاقيةً.

     وأزمةُ العالمِ اليوم أزمة أخلاقية - عقلية بالدرجة الأولى؛ والعقل في هذا السياق ليس العقلَ في اصطلاح أهلِ المادة ولا أهل المُثُل؛ إنهُ العقلُ المطلقُ عن القيود الدنيوية المرتبطُ بخالقِ الكون الله سبحانه وتعالى وتبارك. 

 ما أقصد بالحياء المفقود في مدارسنا الحياءَ المرضي (إن صح هذا التعبير) وهو الخَجَلُ؛ حيث ينتج أفراداً جبناء لا يستطيعون المواجهة والدفاع عن حقوقهم؛ يستمعون فقط ولا يتكلمون، ولا يعبِّرون عن آرائهم ومواقفهم ولا ينتقدون... ديدنهم الصَّمتُ والسُّكُوتُ...إنما أقْصِدُ الحياءَ الآخر الصحّي المحبوبَ لدى ذوي العقولِ السليمةِ والألبابِ السَّويةَ المستقيمةِ، لا الذين امتلأت أذهانهم وغرقت قلوبهم في ثقافة الصِّفر؛ نشأوا فيها وترعرعوا فشكَّلت عقولهم وغطَّت قلوبهم فما استطاعوا الانفكاكَ عنها ولا التخلصَ من قيدها، فنلتمس لهم العذْرَ من هذه الناحية؛ فهم ضحايا، ولا نلتمس لهم، إذ إنهم لم ينتقدوا حمولتهم الثقافية التي شكَّلت تصوراتهم فحَكَمَت تصرفاتهم؛ فهذا هو مصدر الخلاف.

     القدوةُ / والنموذجُ مسألةٌ ضروريةٌ في العمليةِ التربويةِ والتعليميةِ، فوجود عنصر أو عناصر  يتمَاهَى / يتوحَّد معها التلميذ تبقى مطلباً هاماً.

   وعناصر الإدارةِ وموظفوها بدْءاً بالمدير وانتهاءً بالأعوانِ يجب أن تكون مؤدَّبة متحليةً بحليةِ الأخلاقِ الحسنةِ والحياءِ، ذاتَ سمت حسنٍ وصدًى طيب. ذلك أن التلميذ يتأثر بهم ويتشرَّب مواقفهم واتجاهاتهم.

     فكلما كانت سلوكاتهم موحَّدةً مؤطرةً بإطارِ الأخلاقِ والقيمِ العاليةِ العادلةِ والآدابِ الطيبةِ الجميلةِ كلَّما تثبتَ ذلك في نفوسِ الأطفال / الطلبة؛ فيُدْرِكُ من خلال تلك الوحدة الأخلاقية أن هذا السلوك مطلوبٌ وحتمٌ لازمٌ.

      وإذا ما وُجِدَ التناقض بين الأطر التربوية- بعضهم يشرقون والآخرون يغربون؛ كلام بعضهم يَجُبُّ بعضا وسلوكاتهم متباينةٌ؛ هذا الأستاذ يقول كذا والآخر خلاف ما قال الأول؛ ذا يؤمن بالقيم والآخر لا ...والضحية في الأخير هو التلميذ - فلا تنتظر منهُ رجلا سويا متزنا وهو يحمل في ذهنه زوبعة من المواقف والاتجاهات الفردية المتباينة. وأنت تعلم أن أطفال اليوم رجال غداً تُلقى على عواتقهم مسؤوليات ومسؤوليات. وهذا أمرٌ مؤسفٌ كثيراً واقعٌ، وليسَ أضغاث أحلام. وهو يتنافى كلياً وما نأمله من المدرسة!

     مما لا نقاش فيه أن تمكينَ التلميذ / الطالبِ مِن مصفاةٍ للسلوك مطلوبٌ حسنٌ؛ بل واجبٌ. هذه المصفاة يفرضها واقعهم الذي اختلط فيه الحابل بالنابل والصحيح بالخاطئ والغَثُّ بالسمينِ، ونتج عن ذلك تخبطٌ وعشوائيةٌ وتناقضٌ في المذاهبِ والطُّرق وتشرذُم، وانعكس على النفوس فشابها الاضطرابُ والشكُّ والتِّيه ورسَّخ هذا تناقضاً عجيباً...

   والإشكال الذي سيطرح للنقاش في هذا السباق هو:
-       من سيضع هذه المصفاة؟
-       وأي الفلسفات ستؤطرها؟
-       ولأي الاتجاهات ستخضع ؟

      مناقشةُ هذا الأمرِ تحتاجُ إلى تجرُّد كبيرٍ ونظرٍ بصيرٍ وموضوعيةٍ شاملةٍ وانسلاخٍ عن الموروثِ الثقافِي المريضِ المترسِّبِ في الوِجدانِ، فتَحْتَكِمَ إلى العقل النَّزيهِ الذي لا تَخْرُجُ أحكامه عن المسْطور في نصِّ القرآن والسنة الصحيحة؛ فهما منهجان سديدانِ وقاضيانِ عدلانِ في أمور الدين والدنيا، وما جاءا إلا لإتمام مكارمِ الأخلاقِ. أما الذين يرفضون هذا الاتجاه فأقولُ لهمْ قولاً يغلب ظنِّي أنه فصل: انتظروا إلى أن يشيرَ عليكمْ أصحابُكُم من الضِّفة الأخْرَى، بأهمية الأخلاق التي جاء بها الشَّرعُ الحكيمُ؛ لتسلكُوا هَذا المسلكَ، وإنَّا معكم ننتظر عاقبة الأمور؛ وبعض ملامحها غدت واضحة...

      ثم يجِب أن نبيِّن حقيقةَ "القدوةِ" فهي ليستْ على إطلاقها؛ أيْ ليست هناك قدوةٌ مطلقةٌ، وهذا ما يلزم أن يترسخ في أذهانِ تلامذتنا وطلبتنا، بل وكذا مربينا؛ والفردُ الكاملُ مطلقاً لم يوجد بعد ولن يوجد إلا أن يشاء رب العزة والجلال، فجوانب النقصان كائنةٌ ولا شكَّ. فقد يكون الرجل قدوةً في هذا غير قدوةٍ في هذه، نموذجاً هنا وليس نموذجاً هناك.

      ووفقا لذا فالأستاذ ليس من الرُّسل ولا من الملائكة. وما يَصدر عنه ليس صواباً كله، بل قد يكون خطأ كله إذا تعلق الأمر بالأخلاق والقيمِ مثلاً. والتسلح بآليات التبيُّن والنقدِ مفيدٌ وهامٌ أهميةً جليلةً، وهوَ غيرُ خاصٍ بفئة عمريةٍ دون أخرى ولا حِكراً على الكبارِ دون الصغارِ...

   فمن حق الجميع أن ينتقدَ الانتقادَ. وكذا احترامُ أسئلة الأطفال والإجابة عنها بوضوح؛ تستوعبهُ عقولهم؛ وصراحة من غير ملل ولا خجل، مسألةٌ مهمةٌ، فغداً أو بعدهُ سيعرفُ حقيقة الذي سألك عنه فلا تكُ كاذبا وكنْ صادقا؛ إذْ إنه يَبْنِي على قولك معارفَ ومعارفَ...

     صدِّقني إنْ رويتَ لكم قصة واقعية لأحدهم- إنه ضحية من ضحايا الجهل النوعي- كان المسكين يظن أن المرأة تلدُ بمحض إرادتها دون اتصال جنسي بينها والرجل. والأدهى من ذلك أنه كان يرى أن الاتصال الجنسي بين الرجل وزوجته حرامٌ ومنكرٌ. ولم يتَّصل بالحقيقة إلا في سن التاسعة  من عمره!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق