بقلم حنافي جواد
الظاهرةُ الإنسانيةُ تهزمُ علمَهَا
يخطئ علم النفس وعلم الاجتماع وكل العلوم التي تتعامل مع الإنسان؛ من حيث هو سلوكات اجتماعية أو تجمعات بشرية، (كعلم النفس وعلم الاجتماع مثلا...) عندما تتعامل معه باعتباره عاقلا مائة بالمائة؛ يتصرف بوعي وقصدية وإرادة في كل حركاته وسكناته. وفي ذلك- دون مرية- تجميد / تشييئ للإنسانية.
فأكثر سلوكات الإنسان عادات وتقاليد[1] تكونت في ظروف غامضة تراكب بعضها فوق بعض فأنتجت نوعا من البشر، بسلوكات معينة. بل يمكن القول كذلك، بشكل أكثر بساطة؛ إن الغالبية الساحقة من البشر، لا يخضعون في فعلهم وسلوكهم، وكذا مشاعرهم، لقوانين خاصة، أي لمنطق عقلي. فالبشر ليسوا عقلانيين مائة بالمائة %100.
إن العوامل الصغيرة قد تؤدي إلى نتائج كبيرة غير متوقعة، وقد لا تؤدي الكبيرة إلى نتائج ذات بال. فقد تقلب ابتسامة متواضعة مجرى حياة رجل عظيم، وقد تسبب تكشيرة هينة مشاكل جليلة.
فعوامل التغيير/ التأثير محيطة بالبشر من كل حذب وصوب تتداخل تداخلا غريبا لتنتج سلوكات عجيبة.
فلا تطمع ضبطها والتقنين لها لتعددها من ناحية، وتداخلها من ناحية أخرى، وتباين تأثيراتها من ناحية ثالثة؛ إذ يصعب وضع فيْصل بين كبيرها وصغيرها من حوث التأثير...
كما أن للسوابق واللواحق والسياق والسباق والمآلات دخلاً في ذلك كبيراً، فالعامل / المؤثر الواحد يختلف باختلاف العناصر المذكورة، فسياق الفرح غير سياق الترح. والمقبل على الجميل غير المقبل على المشين...
صحيح هناك بعض البشر الذين يحكم العقل والفكر والحكمة سلوكاتهم وتصرفاتهم وتصوراتهم، أما الغالبية الساحقة من أبناء جنسنا فيخضعون لقانون العبثية، إن صح وصف القانون بالعبث؛ فتقودهم الثقافة إلى أهدافها.
إن المنطق الذي يحكم الظواهر الاجتماعية عامة هو منطق خاص؛ ولا أرى أنه المنطق العلمي الذي يحكم الظواهر الطبيعية والفيزيائية؛ بل هو منطق فريد من نوعه؛ ولم أرَ إلى الآن من ضبطه وحدد حدوده وأصوله[2].
ما يتوافر في السوق دراسات وصفية قاصرة عن بلوغ المقاصد المسطرة للعلم قبلاً؛ لا تفرق بين جامد[3] ومتحرك[4]؛ بل تُخضع الحي لما تخضع له الجامد وشتان بينهما!
إن المنطق/ القانون الذي يحكم الظاهرة الإنسانية فوق المنهج العلمي[5] المتداول في أيامنا، إنه أشمل وأعم وأدق، تتداخل فيه عوامل كثيرة في أوقات متباينة ووضعيات مختلفة وحالات وجدانية خاصة، الأمر الذي يجعل النتائج تختلف رغم اتحاد الأسباب. وعما قريب إن شاء ربي سأوافيكم بأبعاض مواصفات/ ملامح المنهج.
بكل بساطة: لا تنتظر من العلوم التي تتعامل مع الإنسان؛ بمنطقها هذا؛ أن تصل إلى نتائج مشرفة، فجل ما تبلغه/ وما بلغته نوع من الرجم بالغيب أو حدس وفرضيات لا تتأسس على النحو الذي يتصرف به بنو الإنسان عامة.
عظام ُملامحِ منهجِ الظواهرِ البشريةِ
مواصفات المنهج الذي يتخذ من الظواهر البشرية موضوعاً
يجب أن يأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
- السلوك / الفعل / الشعور البشري ليس آليا؛ فمن سماته الحرية؛ وهي فريدة من نوعها.
- عوامل التأثير / التغيير كثيرة وكثيرة يصعب فرزها والتمييز بين دقها وجلها، ضعيفها وقويها.
- فقه السياق والسباق/ والسوابق واللواحق والوضعيات، فالمؤثر الصغير في الوضعية المعينة يصير كبيرا، وفي وضعية أخرى صغيرا، وفي أخرى ثالثة غير مؤثر مطلقا.
- كثير البشر لا يفهمون أنفسهم ولا يدركون أسرارهم، فلا يعتد بأقوالهم في وصف/ تفسير ذواتهم[6].
- العلاقة بين اثنين تمر بثلاث مراحل؛ مرحلة التمثيل/ لعب الأدوار – مرحلة التوسط/ الثقوب السوداء – ومرحلة الحقيقة[7]...
- النفاق الاجتماعي مستشر في المجتمعات المتخلفة، فليس ما يقال مطابقاً للقار بالنفس. وقد يكون هذا القار الواقر فيها غير معلوم لدى صاحبه.
- العقل عادات والعادات عقول: تترعرع العقول في حضن الثقافة؛ فالغنى ثقافة والفقر ثقافة والتفكير السليم ثقافة والمعوج ثقافة...فالعقول ابنة الثقافة وهذه أم.
- يحكم جل البشر منطق التقليد، تتماهى/ تتوحد مع بعضها بشكل عجيب. وتجدر الإشارة إلى أن الثقافة إرث، والتنافس من آليات التعلم.
- الكائن البشري كائن مؤول بامتياز. وما أفسد الأديان والعلاقات إلا تأويل فاسد راجمٌ بالغيب.
- الأنانية وحب الذات[8] فعل في الناس الأفاعيل. فالعالم – الآن – يتكون من عدة أنوات( أنا+ أنا+ أنا )، علاقة بعضهم ببعض علاقة أنا بأنا ويترتب عن ذلك: سوء التموقع[9]. والأنانية نوعان:
أ) أنانية كبرى: حب الذات وإيثارها على غيرها؛
ب) أنانية صغرى: بين الأقارب؛ الأقرب فالأقرب/ العصبية القرابية: والقرابة هنا عامة.
- التموضعُ بغض الطرف عن الآخرين/ الإقصاء المقنعُ، ومن جرائرِ ذلك أن توترت العلاقة بين الرئيس والمرؤوس والراعي والرعية/ الأب والأبناء...
- الانسياق مع الظواهر والمظاهر عن الجواهر والأصول والكليات ناتج ذلك عن عوامل منها التربية الشكلانية في البيت والمدرسة والمجتمع والإعلام...
- حبُّ الانحدار ورفض الرقي: ميلان البشر إلى اليسير السهل الذي لا يكلف جهدا، وإعراضهم عما فيه جهد وجد؛ إذ إنه مكلف.
- الإنسان اجتماعي بطبعه في سياقات، وانفرادي بطبعه في أخرى. وإذا تأملنا اجتماعيته لا نجدها تخلو من انعزالية / فردانية، وكذا إذا تأملنا فردانيته لا نلفيها تخلو من اجتماعية...
- الاقتناع سلوك قلبي وليس سلوكا عقليا. فالاقتناع قابلية داخلية عقلية قلبية. فلا تطمع في إقناع قبل القابلية[10].
- الإيمان يسوق الناس إلى تحقيق أمانيهم.
- لا ينجح في إخلاص النية إلا قلة قليلة. فالجانب المادي/ المقابلي – قصير المدى- مهيمن هيمنة على تصرفات الناس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأدبية ...
- الرغبة الجنسية محرك عظيم لسلوكات الناس؛ فمن شدة قوة هذه الرغبة تتعطل الأفكار وأجهزة التحكم كلها ويبقي المجال مفتوحا لها.
- الحاجاتُ/ الفقر تولد المداهنة والنفاق والتعلق الوجداني بالأقوياء.
[2] النصوص الشرعية القرآنية والسنية أبرزت كل حقائق الإنسان من حيث الجملة مع شيء من التفصيل في مواضع منها إلا أن الناس لم يلتفتوا إليها لينبطوا منها ما يخدم النوع المعين والزمان المحدد...
[4] الحركة هنا من نوع خاص غير الحركة المعهودة في الأجسام المادية؛ لأن الحركة في الأجسام المادية منضبطة لقانون بينما في غير الماديات غير منضبطة.
[5] إن المنهج البشري؛ أي منهج؛ ناقص وتمامه الجزئي في تطويره وتجديده. فالذي يليق منهجا لذه المسألة قد لا يليق لأخرى، وإذا لم يحقق المنهج أهدافه المسطرة فلا يعتبر علميا في المسألة التي فشل فيها: إن الذي يحكم للمنهج بالعلمية هو قدرته على تفسير الظاهرة بنجاح.
[8] حب الذات المرضي؛ إذ ليس كل حب للذات مرضيا فمنه الصحي ومنه غيره. فالصحي محمود مرغب فيه مفيد والمرضي واضح من اسمه جلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق