حنافي جواد
آثار الخلفية المعرفية في بناء التصورات وإنتاج السلوكات
بينما أنا في نقاش مع أبي ضحى يوم 08-08-08 تبادرت لذهني فكرة تواصلية، يمكن أن تفيدَ الحقلَ التربويَّ التعليمي التعلمي كثيراً. وهي آثار الخلفية المعرفية في تكوِّن الأفكار وتشكلها وتوجيهها وتغيير السلوكات والأفعال. فرأيت أن فهم الخلفية التصورية الذهنية أساس نجاح أي مشروع تربوي تواصليِّ. فقد دار بيننا نقاش ما كان ليكون لولا أحداث حدثت فوجهت الخلفية فتوجه النقاش معها في اتجاهات لم تكن مقصودة.
ماذا أقصد بالخلفية؟
إنها التمثل الذهني لموضوع معين أو شيء. إنها الفكرة القبلية والنظرة المسبقة للموضوع والشيء.
تتكون الخلفية من خلال تراكمات التجارب والعادات. وهي خلفيات قديمة ومترسبة وحديثة جديدة تكوَّنتْ في لحظةِ التعامل مع ظاهرة ما. فتتغذى من بعضها وتتشربُ. وأرجح أن الخلفيات القديمة أقوى في التحكم من الخلفيات الجديدة. وقد تكون القديمة مرجعا وأصلا في الحكم.
فالخلفية المعرفية تقود الأفكار والسلوكات إلى اتجاهها لتأخذ مسارها ولا تناقضها، فإذا فسدت الخلفية فسد السلوك. وإصلاح الخلفية المعرفية الفاسدة ممكن إذا اكتشف فسادها.
إن مفهوم الخلفية أشمل من مفهوم العقيدة. إنها تصورات فلسفية ممنهجة وعميقة تختفي وراء العقول والقلوب، قد لا يدركها الإنسان. وإن كان ذا مبادئ ومنطلقات. وقد لا تنجح عملية تقويم السلوك إذا فشلت عمليات فهم طبيعة فساد الخلفية.
إن التقويم الصحيح للخلفيات يفرز تغيراً في السلوكات والتمثلات. ألم تسمع عن شخص كان في أقصى اليمين؛ والناظر إليه المتتبع مجرى حياته يحكم عليه جازما باستحالة انقلابه إلى أقصى اليسار، ثم انقلب يوماً إلى أقصى اليسار؟
إن عقل الرجل لم يتغير وإنما تغيرت خلفيته فقلبت طريقة عقلنته للأمور. لهذا وجد في صدر الإسلام رجالٌ كانوا من ألذِّ أعداء الإسلام فانقلبوا إلى ألذ أحبائه. لماذا حصل ذلك؟ لأن خلفياتهم تغيرت.
عرفت أن تغيير الخلفية ممكن، لكن لا نعرف شيئا عن سهولة ذلك أم صعوبته؟!
الخلفية أشبه ما تكون بالطفل الصغير الذي لم يشتدَّ عوده. فكلما كان صغيرا أمكن التأثير فيه وتغييره. فهو كالعجين يمكن أن تصنع به ما شئت مما يوافق طبيعته وميوله. أما إذا كبر وصلب عوده فلا تطمع ذلك إلا بصعوبات شديدة.
قد نطلب منك تعليم طفل مادة الرياضيات؛ فإذا علمت أن هذا الطفل رسخ في ذهنه (في الجانب الخلفي منه) أن مادة الرياضيات صعبة غير ذات جدوى...فإنك لن تستطيع تعليمه حتى تعالج خلفيته. مثل ذلك كمثل من قيل له إن الإسلام دين الإرهاب ويحثُّ على قتل الأنفس وتدميرها...فهذه الخلفية ستمنع الرجل/ المرأة من قربان الإسلام بله التزامه. إني أشبه الخلفية بقاعدة البيانات المتحكمة في السلوكات والتصرفات والمواقف.
قد تقدم للرجل الحجج والبراهين القوية الدامغة المقنعة فلا يقتنع، لأن خلفيته منعت عنه النور. فيتبادر إلى ذهنه مثلا أنك تريد الاحتيال عليه لتأخذ ماله...فالخلفية المانعة من الاقتناع في هذا المثال هي الظن بالاحتيال.
وقد يحتد النقاش بين اثنين أو مجموعتين في موضوع نجمع أنه تافهٌ لا يستحق أن يبذل فيه الوقت والجهد والكلام. وهذا النقاش إن أنت أدركت الخلفيات علمت أنه عملية تصفية للحسابات جعلت من النقاش سببا...فيتسرب غضب الفريقين عبر موضوع النقاش-كالنقاش الجاري بيني وبين أبي.
لهذا قلنا إن نجاحَ أي مشروع رهين بتصحيح الخلفيات وتوجيهها الوجهة السليمة. فالتلميذ المحملُ بخلفيات سوداء عن المدرسة ونتائجها، لن يتعلم ولن ينتج، فالأولى بالمربين والمعلمين أن يصلحوا خلفية تلامذتهم التصورية أولا. وعملية الإصلاح هذه لن تؤدي واجبها إذا لم يتغير واقع المدرسة المغربية، فيدركه الآباء إدراكا ليبثوا في أبنائهم الروح المعنوية، ثم لا قيمة لذلك إذا لم تتأكد لهم الرؤية في الواقع العملي.
تتكون الخلفيات مع تكون العقول وتسكنها على نحو عجيب. فالجانب الفطري من الخلفية هو جانب هيكلي فقط؛ يولد فارغا فيمتلئ بالصور.
يجب التنبيه هنا إلى أن الخلفيات الجمالية تولد مع الإنسان، وجانب منها يتأثر بالثقافة.
قد تعرقل الخلفية المعرفية طموح المرء فتمنعه عن تحقيق بغيته وأهدافه.
فالعقل قسمة عادلة بين الناس تختلف طريقة استثماره حسب نوع الخلفية المعرفية التي تكمن خلفهُ.
بإمكانك أن تصبح ملاكماً بارعاً وسياسياً محنكاً وتلميذاً نجيباً وعداءً كبيراً...إذا أحسنت التعامل مع خلفيتك المعرفية أو ترعرعت هذه في بيئة سليمة مؤهلة للميول التي ترغبهُ.
ولست مثالياً طوباويا كبعضِ الناس؛ ممن يروجون لعلم التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية، فيحمِّلون الفرد كل المسؤولية ويُقْصُون الجهات المسؤولة...فالملاكمة تحتاج إلى إمكانياتٍ وكذلك السياسة والنجابة والرياضة. فإصلاح الخلفية يؤهل الفرد بالقوة إلى العمل والتغيير، والوسائل ضرورية ومهمة...
- إذا توافرت الوسائل ولم تتوافر الخلفية الصحيحة فإن العمل لا يتم.
- إذا لم تتوافر الوسائل وتوافرت الخلفية الصحيحة فإن العمل يكون ناقصا.
إني تأملت عقل الإنسان فوجدته يتكون مما يلي:
- عادات متوارثة.
- تجارب قديمة وحديثة.
- صور ومشاهد.
- اتفاقات ومسلمات.
وفي الجانب الخلفي من العقل توجد قاعدة البيانات والتمثلات، وهي ما أسميناه بالخلفية المعرفية. وهي عبارة عن ترسبات وتراكمات وتجمعات والتئامات.
تلتئم فيها العناصر المتشابهة وتجتمع مع بعضها رويدا رويدا فتكون خلفية. فالشيء إذا تكرر تقرر، والتربية كما تعلم تكرار وإيلاف وقدوة.
قد يكون المرء ذا خلفية حساسة أو جبانة أو متهورة غير مبالية أو نقادة...فهذه الخلفيات تؤثر في السلوكات والتصرفات وفي أنماط الأفكار. وتمرر الخلفية من جيل لآخر عبر قنوات التنشئة الاجتماعية.
الخلفية أنواع فمنها خلفيات أساسية كبرى وأخرى صغرى. فالكبرى كخلفية الأمريكي واليهودي والمغربي...والصغرى كخلفية الجزارين والحدادين ورجال الدرك والوقاية المدنية والخضارين...ثم تتجزأ خلفية كل نوع إلى خلفيات جزئية.
الخلفية -إذا- هي إطار نظري ذو أبعاد عملية تواصليه؛ في الأعم الأغلب؛ مؤطر للسلوكات وموجه للتصرفات. وإصلاحها أولى من إصلاح السلوكات لأن الخلفية هي الأصل والنبع. فقد يظهر لك انصلاح في السلوك فلا تفتأ أن يعودَ لحاله الأول لأن قاعدة البيانات لا زالت تحتفظ به. فإنها لا تعمى الأبصار وإنما تعمى الخلفيات التي في الصدور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق