أخطار
تداهم باب الأسرة والمدرسة
حنافي جواد
بمن يقتدي الناس في ذا الزمان؟
لم تبق الأسرة ولا المدرسة مصدرَ
القدوةِ والأسوةِ؛ بل الأسرة والمدرسة خضعتا لسلطة أخرَى عجيبةٍ ناعمةٍ ساحرةٍ
مثيرةٍ مرفِّهةٍ عن النفوسٍ جذابةٍ، قادرةٍ على التأثير مقتحمةٍ للبيوت اقتحاماً
ذكياً، أذابتْ الأطفال وسلَبتْ ألبابهم وأدَّبت الكبارَ وما أحسنت تأديبهم.
يُشكل التلفزيون على حدِّ تعبير
دي لوي مدرسة موازية وعاملَ توحيدٍ للأجيال الصاعدةِ؛ وفي المدرسة الموازية هذه،
التي أسسها جهاز التلفزيون؛ لم يَعُدْ الوالدُ يمثل النَّموذجَ بالنسبة للطفل، بل
أصبحَ بطَلُ المسلسلاتِ هو المثالُ والنموذجُ.
إن حيزا كبيرا من رغبات الطفل المعاصر يشبع بالواسطة؛ بصور الدعاية
والمسلسلات التلفزيونية.
(انظر ثقافة الطفل العربي بين
التغريب والأصالة ص:258 مع التصرف)
-
ثم إن الرسالة
التي تنقلها الصُّورة قادرةٌ على إيصال دلالات لا يعبر عنها لفظيا بسهولة.
-
الصورة تؤثر على الدَّوافع العَمِيقَةِ وتؤكدُ
قدرتهَا على الإقناع، وفي التأثير على الجانب غير الواعي من الإنسان، فإذا كان النَّصُّ
يتوجه إلى الدوافعِ الواعية وإلى الحاجات التي يَعترفُ الفرد بوجودها، فإن الصورة
تتَّجهُ إلى مشاعرهِ الغامضةِ وإلى رغباته المحرمة.
(المرجع السابق ص:261 مع التصرف)
وحاولت ماري خوسيه شومباردي في
كتابها أولادُ الصورةِ أن تبرزَ المكانة التي تلعبها وسائل الاتصال الجماهيري عامةً
والشاشةِ خاصةً في تنشئة الأطفال الاجتماعية قالت: يمكنُ اعتبار وسائل الاتصال
الجماهيري التي تتوجه إلى الناشئة كمجموعة مؤسساتٍ تساهم في التنشئة الاجتماعية
للجيل الجديد إلى جانب المدرسة والعائلة والجيران. (الصفحة:258 المرجعُ السابقُ مع
التصرف )
ومن بين ما انتهت إليه
الدراسات الاتصالية أنه:
-
كلما كان عدَدُ
الحواسِ التي تتلقى المثيرات أكبر كان الإدراك أقرب إلى أن يكون صحيحاً؛
-
فالطفلُ الذِّي يتهيأ له أن يرى آلة موسيقية
ويسمع نغماتها يكون له نصيبٌ أكبر من إدراكِ طفلٍ آخر لم يتهيأ له إلا سماع
النغماتِ وحدها أو رؤية الآلة وحدها،
-
ولهذا يعتبر
خبراء الاتصال أن الشاشة الصغيرة/ الكبيرة أكثر قدرة على إيصال الرسائل الاتصالية
لاعتمادها على الصورةِ والصوتِ معا...(ثقافة الطفل الدكتور هادي نعمان الهيتي
ص:72/73 مع التصرف)
يقول هادي النعمان الهيتي: من الملاحظات التي
انتهت إليها الدراسات أيضا أن أغلبَ ما يكتسبهُ الأطفالُ من التِّلفاز وقتيٌّ في
تأثيرهِ. إذ تبيِّن أنه رغم الفوارق التي تظهَر بين الأطفال الذين يتعرضونَ
للتلفازِ والأطفال الذين لا يتعرضون لها في البيئاتِ المتشابهةِ بأن مستواهِم الدّراسي،
بعد السنة الثالثة أو الرابعة، تبدأ في التقارب بما في ذلك ذَخيرتهم اللغوية، مما
يؤكد آنيةَ تأثير هذا الجهاز في تشكيل ثقافةِ الأطفال وآنيته في توفيرِ المتعة.
(انظر الصفحة:136 المرجع السابق، مع التصرف)
وعلى الرغم من ذلك فإنه لو
استغل الاستغلال المناسب لآتى أكْلَهُ طيبا في مجال التعليم والتربية... إذا كان
الهدفُ حقا هو الأخذُ بيَدِ الناشئةِ والنَّاسِ عموما لتعلم أفضل وإدراك أشمل ووعي
حقيقي عميقٍ.
أما
إذا كان الترفيه هو الطاغي المهيمنُ على بقَعِها كلها؛ متخللاً جلَّ برامجها
وقنواتها؛ فلا نظنهُ قادراً على ذلك. زدْ على ذلك أن يكون هاجس التربية والتعليم
هو الأصلُ، لا زمنُ البرامجِ؛ فكثيراً ما يُهتم بزمنه ويكون التعليم تبعاً له، فلا
يلتفتُ إلى إفهام الناسِ واستيعابهم؛ بل إلى انتهاء الحصة في الوقت المحدد لها،
وغاية الإفهام ليست هي المقصود.
والواجب أن لا يكون الدَّرس المقدم تلقيناً
جافاً، وإنما بنائياً فعالاً تتخلَّلُه الدَّعَابةُ الفكاهة، وشيء من المرح، على
أن لا يكون هذا قصْداً أصْلياً. فهذه الطريقة؛ التي وصفت لك؛ مفيدة إن شاء الله
نافعة...
كما أن النخبة في المجتمع
(صالحة كانت أم طالحة) لها وجودٌ في التأثير كبيرٌ ولاسيما إذا أبرزتْ هذه النخبةُ
في وسائلِ الإعلامِ، والنخبة بسلوكها وطرائق تفكيرها وعاداته وملابسها وطريقة
حديثها وهويتها واهتماماتها تكون قدوةً يُقتدَى بها من قبل عامة الناسِ وهي من
علماء وسياسيين ومثقفين وفنانين ونجوم وكواكب ورياضيين وقد يكونون من المنحرفين...
( انظر العقل العربي وإعادة التشكيل/ عبد الرحمن الطريري.ص: 65 مع تصرف)
وتلاحظ من خلال النصِّ أن الكاتبَ ربطَ بين
اعتبارِ النُّخبةَ من قنواتِ التأثير ووسائل الإعلام حيث قال:" لاسيما إذا أبرزت
هذه النخبة في وسائل الإعلام". لتعلم أنها خَطِرةٌ ومؤثرةٌ . وعلى العموم
فالنموذج الغربي غدا مسيطراً سالبا ألباب الصغار والكبار.
- لماذا؟
بكل سهولة لأنه تحكم في الآلةِ
والعلمِ والمالِ، فأمستِ الأسرةُ والمدرسةُ ضعيفةً أمامَ السَّيلِ العرمِ والفَيَضَانِ
الكبيرِ منَ الآلات ووسائل الترفيهِ والتقنيات الحديثة خصوصا عندما يُشَهَّر لها
في ظروف أكثر إثارةً وجاذبيةً وإغراءً، في أوقات الذروة، فيُمرَّرُ الخطابُ
المشحونُ بمواقفهِ واتِّجَاهاته وتقاليده بسهولة يسيرةٍ وطرائقَ ساحرةٍ، ذلك من
خلال آلياتِ التَّكرار والإثارة...
تشعرُ البلدانُ الناميةُ وهيَ
تشاهدُ موادَّ الترْفيهِ التلفزيوني المستورد وخاصة الأمريكي منه بقدرٍ كبيرٍ من
الحرمانٍ وهِيَ تُقَارِنُ حَتَّى في (اللاوعي) بين واقعها المأساوي وبين الأجواءِ
التِّي تقدمها وتصورها هذه المواد، وإن كانتْ كلها ليست حقيقةً، فالوسائلُ لا تعكسُ
الواقعَ كمَا هُوَ، بل تقتطفُ منهُ صوراً تضُمُّهَا إلى بعض لتخلق مشهداً مثيراً،
يحسبه الجاهلُ مليئاً بالحقيقة، وما هو إلا صوَرٌ ملفقةٌ.
- واعلم أن الصورة تخدع ولا تعكس
الحقيقة، هذا إذا افترضنا أنها حقيقية مصوِّرة لواقع موجود، أما إذا كانت كاذبة؛
فحدِّث ولا حرج...!!
وعن تأثير الشاشة وخطورتها يقول أحدهم:
أما تأثير التلفزيون فإنه تأثير وحْشِيٌّ وعشوائي لأنه لا يخضع لضوابطَ؛ إذْ إن
التلفزيون يقْتَحمُ الأسرةَ اقتحاماً في وقت يَخْلُدُ فيه الفردُ إلى الراحةِ
والاستراحةِ والتحرُّرِ من التزامات العملِ وتتعطل في الغالب لدى الفرد آليات
الدفاعِ التي تتيحُ له أن يتخذَ موقفاً نقدياً مما يراهُ...وقانون ذلك كله هو
التَّكرارُ والإيلافُ والقدوةُ: فما تكرَّرَ تقررَ ليُصبحَ عاداتٍ ثم طبعاً فسلوكاً،
وهذا السلوك إنما يتوَجَّه نحو قدوةٍ رسمها المشهدُ المتَكَرِّر.
والخطر في تأثير التلفزيون أنه
أصبح ينافس تأثير الأسرة والمدرسة. وتشير إحدى الدراسات الميدانية في هذا المجال
إلى نتيجة مرْعِبةٍ؛ وتتمثل هذه النتيجة في أن سبعة وتسعين طفلا في سن الحادية عشر الذين شملتهم الدراسة أعلنوا أنهم يثيقون
في التلفاز كمصدر إعلامي أكثر من ثقتهم في أي مصدر آخر.
وهو يأخذ من أوقاتِ أطفالنا نصيباً كُبَاراً
ويصرفهم عن تحضيرِ دروسهم ليتيهوا مع قنواتِه هنا وهناك، يحدثُ ذلك خصوصا إذا لم
تكُ هناكَ رقابةٌ أُسريةٌ أو كانت الأسرةُ مهملة مفرطة في واجباتها، ما يُهمها إلا
ملءُ البطون فقط.
وإذا كانت الصورةُ غير قادرة على
صرف بعضهم مطلقاً فإنها على الأقل تدفعهم إلى التخلصِ من واجباتهم، فَتُنْجَزُ في
لمحة بصرٍ لينطلق الطفل سابحا في بحرها الذي لا ينتهي، هذا بغض الطرف عن لعبهِ
بالعقولِ...
وعلى هذا الأساس لستُ أزعم أن
الشاشة تخدمُ المدرسةَ وتقفُ بجانبها مساعدة مناصرة لتؤدي واجبها؛ فبينهما؛ كما
تلاحظ؛ تباعد، وما ينْجَلِي من تقاربٍ في بعض فقراتها ما يبْرَحُ أن ينكشفَ سحرهُ،
ويَظْهَرَ عُوَارُه.
وأدْرَكْتَ في الأسطر السابقة
أنه على فرضِ كونه قناةً للتعليم والتأديب فما تُعلِّمه سرعان ما يمحي ويزولُ. لأن
التعليم الحقيقي مرتبط بالممارسة والفعل كما عرفت. (التعلم = الممارسة)
وحبُّ الإثارة والترفيهِ والمتعةِ
هو الداعي الأول إليه. فلئن استمر الوضع؛ لا قدر الله؛ على هذه الحال وانضاف إليه
سحر الساحر الكبير الشبكة العنكبوتبية، التي اقتحمت بلا استئذان بعض البيوت؛ وهي
الآن بصدد ولوج ما بقي تحت قناع العلم والتعلم وشعارات أخرى...- فَقُل للمدرسة
وداعاً يا حبيبتي. وقل ذلك قبل ذلك للأسرة. ولْتَأْمُر الأب / الأم بتقديم
الاستقالة وترك البيت لهذا المحتل المجهولِ متعدِّدِ الأقطَابِ متنوعِ التصوُّراتِ
وسالبِ الألبابِ.
ينصح علماء النفس والتربية أن يشجع الطفل على
الكلام وهو يشاهد الشاشة، فيعقب على ما يراه ويسمعه ويعبِّر عن انفعالاته بالأحداث...
ولا بأس أن يشاركه بعض أفراد الأسرة في التعليق
والتعقيبِ وبذلك يخفِّفُ من تأثير الخطاب التلفزيوني.
وأذهب أبعد من ذلك فأرَانِي أفْرِضُ
على الأبوين أن لا يتركا طفلهما يتيه في فيافي برامجهِ وقنواتِه كيلاَ يضيعَ منهما
حبيبهما وفلذة كبدهما، فأُلْزِمُهُمَا بصحبته خطوة خطوة، فيدلانه على غثِّه ليتجنبه وسمينه ليرتع في
مرتعه. وعليهم؛ كذلك؛ أن يلقحاه باللقاح المضاد للأمراض المعروضة في شاشته أو
المتوقعة.
ولا أرى أن يُتْرَك وَحيداً
أمامه مشدوهاً إذ إني أخشى عليه، فبيْنَ يديه جهاز التحَكُّمِ في القنوات فينظر
الذي يليق والذي لا يليق، وبمجرد أن يقتحم عليه الأب أو الأمُّ يختار اتجاهاً آخر،
وكأن شيئا لم يكن! فوجود الجهاز في البيت يعتَبَر سلطة ملزمة شئت أم أبيت.
أما بخصوص علاقة الترفيه
بالتعلم فيرى الباحث الأمريكي المرموق ولبر شرام أن ما يتعلمه الطفلُ من التلفزيونِ
يكون بمثابة كسب يأتي ضمن البرامج المُعدة للترفيه. ويؤكد الرأي ذاته الباحث
الأسطرالي غ نوبل: أكدت جميع الأبحاث التي قمتُ بها وعلى نحو متكرر أن الأطفال يتعلمون من برامج التسلية
والترفيه أكثر مما يتعلمون من البرامج التعليمية، وربما كان هذا هو السبب الذي دفع
الباحثة البريطانية دهيميلوات إلى التأكيد على حقيقة أن الأطفال يتعلمون من مواد
التسلية والترفيه أضعافَ ما يتعلمونه من المواد ذات الصفةِ التعليميةِ المباشرةِ
والواضحة. ولذلك تدعو هذه الباحثة إلى عدم فصلِ البرامجِ إلى تثقيفية وتعليمية
وترفيهية، لأنها جميعاً ذاتُ مهمة تعليمية، كما تدعو إلى ضرورة استخدام جميع مقوِّمات
نجاح البرامج الترفيهيةِ لمعالجةِ الموضوعاتِ التثقيفيةِ والتعليميةِ.( عالم الفكر
العدد:28 ص:271 مع التصرف)
ومن المؤكد أن مواد الترفيه التلفزيوني المستوردة من أكثر المواد جماهيريَّة
في البلدان النامية، ومن المؤكد أيضا أن مواد العنف، وما يثير الغريزة الجنسية من
أكثرها جاذبيَّة وهيمنة، وحتى البرامج التي ظهرت بادئ الأمر أنها حياديةٌ، فلا
تخلو من إشارات مهيِّجة للغريزة الجنسية.
فأراني أرى الشاشَة عاهراً
بالبيت، خصوصاً بعد منتصفِ الليل. فتَخَيَّل الطفل الذي يمكثُ أمامها مشْدُوها
ساعاتٍ وساعاتٍ يَنْهَلُ من هنا وينهل من هناك...أليس هذا الطفل معرضاً للأمراض؟
فيا للعلماء والمربين للطفل المسكين هذا الذي سيكون رجلا / امرأة غدا يصنع
الأجيال!!
ولست تستغرب إذا أنت لاحظت أن
ما يَمْتَاز به الأطفال عن بعضهم قليل وقليل جداً. فهم نسخٌ طبقا لأصل واحد! فجلهم
خريجو معهدٍ واحدٍ، مقوْلَبُون في القالب عينه؛ أمانيهم واحدة وطموحاتهم كذلك...
يكرِّس الترفيه التلفزيوني النمطية والتماثل،
إذْ دخول وسائل التلاعب (الإيديولوجي) إلى السوقِ يجعل الثقافة مقتصرةً على تنظيم
العقولِ وجعلها متماثلة وتحويلها إلى عاملٍ مساعدٍ على التملصِ والهروبِ واللهوِ.
والهدف المقصود هو صنع المستهلكين...
-
إن التماثلَ
والهروبَ طريقانِ لإبعاد العقول عن كلِّ إسهام مبدع في الحياة العامة.
-
تحوَّلَ
التلفزيون إلى آلة محكمة للسيطرة على العقول، لأنه نجح في إقامة اتحادٍ قاتل ما
بين برامجَ مسلوبةِ الهوية بصورة متعمدة (المادة المخفضة للوعي) وما بين تكنولوجيا
تبعث على الفتور ( أشكال التعرض لها) وما بين همود جسدي - عطالة...( عالم الفكر
المجلد 28ص: 278 بتصرف)
-
فأين المدرسة
من هذا؟
-
وهل يكفيها أن
تلقِّنَ المعلوماتِ، وتملأ هيكلاً من صنع القنواتِ؛ على فرض أنها تلقنُ بمعنى
الكلمةِ؟
-
أليست تدرك أن
علاقة المدرسةِ بالقنوات مضطربةٌ قَلِقَةٌ، ففرضت عليها أنماطا من التصرفات
والأفعال فاضطرتِ المدارس إلى الانسجام معها؟
-
ألم تدركْ أنها
حجر عثرة أمام اجتهاد المجتهدينَ، دع عنك ضعاف التلاميذ ومهمليهم؟
نضيف
إلى الشاشة والقنوات الفضائية بفضائحها والشبكة العنكبوتية جهازاً آخر انتشرَ
انتشاراً مهولاً، وكأني أراه هديةً إلى من ضاقتْ بهم السُّبلُ الماديةُ، ولم يكُ
بوسعهم الانخراط في الشَّبكة الفضائية أو العنكبوتية: جيءَ به ليسدَّ الثغرةَ عندَ
بعضهِم، وليكون من الكَمالياتِ عند الآخرين، الذين أضافوه إلى الصَّحن الهوائي
المستقبل للفضائيات، وهذا الجهازُ هوَ جهازُ استعمال الأقراص المضغوطة المربوطِ
بالتلفازِ، فتظهر الصورةُ ويسمعُ الصوت.
خوَّل هذا للأطفال والكبار أن
يختاروا المسلسلات التي يودُّون مشاهدتها، والرقصات التي يحبُّون والنجوم التي
يريدُون...في كلِّ وقت يرغبونَ فيعيدون النظرة تِلْوَ النظرة والفرجةَ عقِبَ
الفرجةِ بأثمانٍ بخسةٍ، مع إمكانيات الإعارة بدرهين أو أقل. وقد فعل الأفاعيل في
صفوف الأطفال، وانضَافَ شرُّهُ على شرِّ القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية.
فأمسى همُّ الأطفال تبادُل الأقراصِ ومناقشة مضامينها والمفاضلة بينها. ومن
خصوصيات هذا الجهاز:
-
تمكين الأطفال
من الفرجة مراتٍ عدة؛
-
يعطي الخيرة
ليختار المسلسل أو الرقصة التي يوَدُّ؛
-
تبادل الأقراص
بين الأطفال/ الناس، ووفرة الجديدِ فيها. وأنت لا تجهلُ ما يعرفه سوقها من قرصنة؛
-
إمكانية
استغلاله في النافع والمفيد، وسهولة التحكم فيه، لكن الغالبية الساحقة لا تستعملهُ
في التعلم، وجانب التسلية والترفيه فيه طاغٍ.
هذا مع غضِّ النظر عن ألعاب الأطفال، حيث
الإفراط في استعمالها يشغل الأطفال عن واجباتهم المدرسية، ويفتحهم على عالم اللهو
والتسلية الزائدين المرضيين.
وجملة القول: إن الأسرة
والمدرسة أمامَ هذا التزَايُد المهول لوسائل الترفيه والإمتاعِ في خطرٍ. حلت محل
الأب والأم والمدرسة وفرضتْ نماذجها عنوةً، فنمطتِ الأفكارَ والتوجُّهاتِ وغذَّتِ
الطّموحات وقلبَت الميولاَت، وصنعت منها نموذجا واحدا متماثلاً. فحببت إلى الناس/
أطفال / طلبة... أشياء وكرهت إليهم أخرى، وأصبحَ النمط الأمريكي والغربي في الحياة
والسلوكِ النموذَجُ الأمثَلُ، مسْتغِلةً الخواء الثقافي، وتطورها في العلوم وإبداعها
في الاختراعات، والإعجاب الزائدَ بهم؛ الذِّي كان الإعلام منْ الوسائل لتثبيته
وإقامته، زَرَعتْ بذورَهُ يومئذٍ والآن نمتْ شجرةً جذورها في قلوبِ الناس ضاربةٌ
بأطنابها.
ولن نصل - إلى شيء- ما دمنا
معجبين، لم نسطِّر طريقنا التنمويّ النابع من فهمنا وإدراكنا لواقعنا الموافق
لثقافتنا.
فهذه الوسائل المذكورة كانت
ستكون يداً يمنى للأسرة والمدرسة لو خضعتْ لسلطانِ العقلِ الصَّالحِ، وتحكمها منهجٌ
سديدٌ واضحُ الأهداف، مبني على خصائص
المجتمع وعاداته الصالحة، مستلهمٌ كل تجربة صحيحة، لتدمج في نسق المجتمع الفكري
والشعوري، وإن كنَّا نسْتَشْعِرُ صعوبةَ ذلك وعسْرَهُ في ظلِّ تصاعد موجات القنواتِ العالميةِ وحملاتِ الشبكةِ
العنكبوتيةِ الشَّرسة، ووفرة وسائل الترفيه والمتعة وجاذبيَّتِها، ونزوعِ بعضِ
الدول إلى تعميم نماذجها، ومنحها الصَّدارة وقصب السبق، وأمورا أخرى ستظهر بعد
حين...
فهذه كلها معَوِّقات وأحجارُ عِثَارٍ
في طريق ضَمِّ يد الأسرة والمدرسة إلى يد وسائل الإعلام والاتصال - ولا نظن هذا يُثْنِينَا
عن هدفنا إذا كان سلاحنا عقلاً مفكراً
وقلباً حكيماً مدبِّراً.
هناكَ إجماعٌ بين من درسوا ظواهر
الغزوِ الثقافيِّ على اختلافِ أشكاله، وفي مختلف الأقطارِ التي تتعرَّضُ له عربياً
أو عالمياً اتفقوا فيه على حقيقة واحدة: أن الغزوَ الثقافيَّ أو تسربَ التغريبِ،
أو نجاحَ التنميطِ الثقافيِّ...هو رهينٌ بدرجة القابلية لهُ، فالتنميطُ عمليةٌ مفروضةٌ
من الخارجِ لا تنجح بشكل تلقائي، بل لا بد لها من توافرِ شروطٍ داخليةٍ في البلدِ
الذي يتعرَّضُ لها، حالها في ذلك تماما حال الغزو العسكري أو التبعية الاقتصادية...
تتلخص هذه الشروط في ظاهرة وهن المناعةِ الثقافيةِ على اختلافِ أسبابهَا وأشكالها.
( ثقافة الطفل العربي بين لتغريب والأصالة/ مصطفى حجازي ومجموعة من
المتخصصين ص:89-90)

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق