Translate

الاثنين، 18 يونيو 2012

الراعي


وجاء الراعي

وجاء الراعِي في حالة تبكي المرءَ دموعَ الدَّم، أسمالُه ممزقةٌ ورجلاهُ حافيتانِ وساقاهُ تنضحان دماً من جرَّا الأشواكِ... ورأسٌ حليقٌ تُشُوبُه بقعٌ وأذنان زرْقاوتان وأنْفٌ منكمشٌ خجولٌ، وفمٌ صغيرٌ أحمرُ كالجمرِ متَّقِدٌ...قال له ربُّ الغنم؛ بصوتٍ شرسٍ خشنٍ؛ وما هو بصوت أسدٍ شجاعٍ: لماذا تأخرت؟... وقبلَ أن يلفظَ الإجابة صَفعَهُ صفعةً لو صفتها أيها القارئ لقُضِيَ عليكَ...
أجابَهُ بصوتٍ مُهْتَرِئٍ، ضاعت منِّي شاةٌ كنتُ أبحثُ عنها، ظننتُ الذئبَ تغذى بها...
عفواً يا سيدي فإني لم أقصدْ...
  وما اهتمَّ بكلامِه، فأخذَ طريقه رأساً إلى شجرٍ فكَسَّرَ مِنْهُ غصناً عصاً سُمِع له صدىً في الأرجاء، فأزال غَُصيْنَاتِها وفروعَها بعنفٍ وهو يزمجرُ يُرْغي ويُزْبِدُ، وأقبلَ إلى الطفلِ الرَّاعِي ضَربهُ الأولَى إلى رأسِهِ، والثانيةَ إلى ظهرهِ، والأخيرَةَ إلى بطْنِه... فأغمِيَ على الطفل ثم بصَقَ في وجهِهِ بُصَاقَة سبَحَ فيها محيَّاهُ وكادت تخنقهُ، وقال له: أفٍّ لكَ أيُّهَا الراعي...
   وفي أثناءِ ذلك أقبل ابن السيد في غَطْرسةٍ يلوكُ شيئا في فمه،ِ وينفخُ نفخَ الثورَ الهائج في حلبته، قال متسائلاً سؤالاً مِلْؤُهُ العَجَبُ: هلْ فعلتها مرة أخرى؟! أجابَ الطِّفلُ الطَّريحُ، وما يكاد يُبِينُ، إنها المرةُ الأولَى والأخيرةُ. فضربَه برجلهِ إلى بطنهِ فَسُمِعَ لذلكَ دَوِيٌّ كدَويِّ المِدْفَعِ، فانتابني خَوْفٌ فَلَمْ أقتربْ منهُ لأعرفَ هلْ هوَ على قيْدِ الحَيَاةِ أم لاَ...

  فأقبل كُليْبُ الراعي بخطىً ثابتةٍ إلى وجهه؛ واضعاً أرنبة أنفه السوداء على خدِّه المزهر من البراءةِ، يتفرَّس في محيَّاه ويقرأُ ما رسمِ عليه من حُروفٍ؛ مما يعجز أهل القلوب القاسية عن قراءته، فأخرجَ لسانه يلحسه ويقبِّلهُ، يلقن بني البشر درساً في المودَّةِ والمحبةِ، فاستلقى بجانب صاحبهِ جاعلاً رجلهُ الأمامية اليمنى على رأسه يتألم ويفكر في مصير صاحبه وما سيؤولُ إليه الأمْرُ إن مات الراعي راعِيهِ...!!
وقد قرأتُ في وجه الكُلَيْبِ الصغيرِ وتصرفاتِه عباراتٍ ومعانياً أترجمها لك أيها المتلقي فخذها واعتبر بها:
« ما أقساكم أيها البشر قلوبكم كالفُولاذ والحَجرِ! تهينون بعضكمْ وتحتقِرونَهم إذ هم فقراء ضعافٌ، تزعمون أنكمُ الأرقى وأنتم الأرَاذِلُ. تسبُّون بعضكم فتقولون: يا كلب ويا وجه الكلب...وتنسونَ أنكم أشرُّ من الكلاب ومن أحقر الدوابِّ. إنكمْ تتحمَّلونَ مسؤوليةَ فسادِ البراري والسماواتِ والبحارِ؛ فقد خرَّبْتُمُ العالم عندما فسدت أخلاقكم واسودت قلوبكم. عذابكم يوم الحساب شديدٌ، نحنُ برآءُ من صنيعكم وإن كانت نهايتنا تراب...
لماذا تفعلون المنكرات وحياتنا قصيرة؟!
أتظننون أنكم ستعيشون حياةً سرمديةً؟!
فقد غرَّتكم الأماني » .

  سمعتْ جمعيةٌ من جمعياتِ حقوق الإنسان بالخبر، فأقبلتْ تجري إلى الضَّيعةِ، فاستقبلها ربُّها استقبالاً حسناً، فنادى خادمهُ ليذبح كبشاً من أكباشهِ، قال له: اختر منها الأقْرَنَ الأملحَ الفَتيَّ، الذي لم يحلْ عليه الحولُ فيسهل مضغُهُ وهضمُهُ، ففعل، ثم قدَّمه للفرن فَشُويَ، فأكلوا جميعاً وتلذذواْ، وتحدثوا في كلِّ المواضيع إلا موضوع الحقوق والإنسان.
     تبادلَ القومُ شكاويهم، ومما اشتكى منه فريقُ حقوقِ الإنسان قلةُ الدعمِ المادي المقدَّم لهم...فَفَهمَ ربُّ الضيعةِ ما فهمهُ، فأمر لهمْ بمال فقسموه بينهم بالسويةِ، ففرحواْ وجالواْ وصالواْ في رحاب المكانِ، وعند مغادرتهم مُلئت سياراتهمْ بالتفاحِ والرمانِ والعنبِ وما تشتهيه الأنفسُ، وقد حكى لي من لا أشكُّ في خبره أن لذةَ الأعينِ كانت حاضرة كذلك...
   هذه الأحداث المروية وقعت في المستقبل في مكان ليس كسائر الأمكنة، وفي زمن لا كَسَائِر الأزمنة...شَهِدْتُها بقلبي وفكري ووجداني ولم تشاهدها عيني قط...

   وفي تلك الليلة أخذ الراعي متاعَهُ في كيس حمله على ظهره فنادَى كلبهُ ثم انطلق يمشي السلحفاة يجرُّ ذيولهُ متوجهً رأساً إلى القمة... ولم يلتفت ميمنةً ولا ميسرةً، مطأطِأَ الرأسِ أو يرفعه في أحايينَ ينظرُ إلى السماءِ...سمعته يقول:
" دوام الحال من المحالِ وظلمةُ الليل لن تستمر وإن كنا في أرض ليلها طويل ونهارها قصيرٌ، شَابَ فيهَا الصِّغارُ قبل الكبارِ، وصبغ الكبار رؤوسهم بالسَّواد، فاختلط سواد الشعور بسوادٍ في الليلِ فأصبح بهيما كليلِ تهامة سواداً.

    فرغم حداثة سني فإن لي من التجارب الكثير، علمتني إيَّاهَا الطبيعة، فدرسٌ تلقيتُه في السُّهول، وآخر في الجبالِ، وثالثٌ تحتَ الشجر، وآخر في بركِ الماء، وآخر مع خرافي وكلبي...كلُّ من سمع كلامي، ولم يطَّلع على ميلادِي أو لم يحذق في وجهي حكم لي بأكثر من سنِّي...

    ولو كنت في أرض غيرِ هذه الأرض وفي زمن غيرِ هذا الزمن لعِشْتُ عِيشَةَ الكبراء...ولكني للأسفِ المريرِ وُجِدْتُ بين قوم لا يقدِّرون الرجال حقَّ قدرهم، قوم همُّهم وشغلهم وموتهم وحياتهم في بطونهم وفروجهم، يَصنعونَ آلهتهم فيأكلونَها قبل أن تجفَّ...
    لي طاقات جمة لكني لا  أجد المجال كي أفجرها، مثلي كمثل بركانٍ سدَّت فوهته فاحترق بما فيه...فأضطر لأنضحَ بما يملأني فأُهْدِي الجواهرَ للدَّجاجِ فيتجرأ عليَّ فينقرُني في وجهِي وأذُني وعينِي؛ كنقرِ البازِ فريستهُ في الفلاة، يراني طَعْماً شهياً وغذاءً ثرياً. فأفِرُّ منه ولات حين مناص..."
    المجال مغْلَقٌ والطريقٌ مسدودٌ- ومن قال لك مفتوحٌ قل له مُرَّ منه سالما وستخبرك الأيام بما كنت جاهلاً...كل الأبواب موصدةٌ... رأيتها من بعيدٍ... إنها مقبلة، ربما هي سيارةٌ أو شاحنةٌ...استَوْقَفْتُهَا فوقفتْ فإذا بي أجِدُها مُكْتَظَّة يركبها صنفٌ أشبهُ بالبشرِ وما همْ ببشرٍ...ثم قال لي سائقها، وفي فمه قطعةُ من سجارة يستنشقها بشراهةٍ وعنفٍ يكاد أن يأكلها، قال لي: اركب. قلت: ما أنا براكبٍ. فقال: ولماذا؟ قلت: لأني بشرٌ. فقال متهكماً: أأنت من البشر ونحن بقر؟؟... انتظرني سأعود...فانتظرته طويلا أظنهُ سيعودُ لكنهُ لم يعدْ، ثم واصلتُ سيري أغني: ما أنا إلا بشرٌ عندي قلبٌ ونظرٌ، هَمَلُونِي ترَكُونِي فرُّواْ عَنِّى وخّلَّوني...فغنتْ معي الطبيعةُ شاركتني الفرحَ المغموسَ في التَّرح. وذلك كله من فضلِ ربي خالقِي ورازقي حافظِي من الجنة والناس.
  أدعوك يا ربي أن تفتحَ لهذا الطفل الذي أصبح اليوم شاباً وقريباً كهلاً وبعد غدٍ شيخاً وبعده طريحاً في القبر، أبوابَ رحمتكَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، وأن تهِبهُ الجنةَ مسكناً داراً يخلد فيها أبدَ الآبدين وزمنَ الزَّامنين ودهر الدَّاهِرين...آمين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق