Translate

الاثنين، 18 يونيو 2012

النظم التربوية الوافدة والكتابات التربوية.




النظم التربوية الوافدة والكتابات التربوية.
                                                               حنافي جواد
ماذا بحوزتنا وماذا نمتلك؟
عار وشنار أن يلفي المرء أن كل ما بحوزتنا من آلات وأشياء وأفكار وتصورات، دقها وجلها ليست من صنعنا، ولا من بنات فكرنا. هي للأسف المرير المحزن من غيرنا. هم يفكرون ويتدبرون وينتجون ونحن نستهلك. فأصبحنا صورة  مشوهة لهم، وما أخذنا عنهم إلا ما بار من المنتجات وفسد من الأفكار والتصورات، بل نحن مرغمون على ذلك. فكيف يعقل أن ينتجوا ويبتكروا لنستهلك ونأخذه غضا طريا سهلا يسيرا؟ هذا من أكبر المستحيلات التي لا نحتاج مزيد عناء للتدليل عليها. فكلما زاد استهلاكنا زاد تخلفنا وتقهقرنا، والواقع يشهد برهانا ساطعا، ثم إن الصورة المستنسخة لا تكون كالأصلية حتما. فإذا لم نسطر طريقنا فالتخلف لا محالة مآلنا، والتقليد مرض مميت، والتخلص من عادة التقليد ليس سهلا.

    حقل التربية والتعليم منه يبدأ للتنمية وإليه العود. وأعظم الاستثمارات ربحا الاستثمار في الموارد البشرية. وأعظم مادة أولية؛ على الإطلاق؛ هي المادة الرمادية من دماغ الإنسان. فهي أهم مصدر للطاقة. والطفل مشروع إذا اعتني به العناية اللازمة كان ربحا لأبيه وأمه ولنفسه ولمجتمعه وللعالم والكون والعمران بأسره.

    فلئن تأملت وأجلت نظرك في هذا الكون وجدت الطفل قطب رحى الوجود، فبصلاحه صلاح العالم، وبفساده فساده، وهذا ما يجعل الاهتمام به وتربيته وتعليمه من أولى الأولويات وأجلها على الإطلاق. ذلك باختيار ما يصلح له ويصلحه من النظم والمناهج الكفأة ببناء فكره ووجدانه وسلوكه، القمينة بنقله من كائن طبيعي إلى رجل بانٍ للأجيال، وفاعل في الوجود. فالطفل لبنة من جدران المجتمع والوجود، فإذا كانت اللبنة قوية تحملت ما عليها، وإلا فإن مآلها التفتت والاضمحلال.

 – اسمع يا من يقول أن التعليم قطاع غير منتج وأسمع غيرك.
لذلك فإن أي تنمية لا يمكن أن تكون خارج رحم التربية ومناخها. إن المدارس والمعاهد العلمية التربوية هي طريق القادة السياسيين والاجتماعيين والمفكرين والإعلاميين...فهؤلاء جميعا، وغيرهم كثير، من أبناء التربية والتعليم، ومن خريجي المدارس، ونجاحهم أو فشلهم رهين بنجاح أو فشل النظم التربوية التي كان لها يد في تكوينهم  وتأهيلهم؛ إذ هي التي منحتهم من خطاطات التفكير، ومناهج العمل، ومعايير التقويم.

       إن النظام التربوي القوي كفيل بإنتاج إطار كفء خادم لمجتمعه منسجم مع قيمه، لا يجد نفسه آخر المطاف عضوا نشازا من جسم أمه. إنه يؤهل الفرد ليتموقع في مكانه المناسب له، ويسد ثغرة من ثغرات مجتمعه، لا ليكون هبة لمجتمع غير مجتمعه؛ أهل في بلده ثم رحل ليخدم مجتمعا آخر اشتراه رخيصا، لأنه لم يجد في بلده ما تخصص فيه واستفرغ جهده، فهو إذا ضحية نظام تعليمي مستورد.

    إن هذه النظريات التربوية والنظم المعرفية المستوردة لا مشروعية لها في إطار قيم الأمة وتاريخها وثقافتها وبيئتها ومرجعيتها، ولا بديل لنا ولا منقذ إلا تطوير نظرياتنا التربوية المنسجمة مع قدراتنا ومواردنا وطبيعتنا ومناخنا وخصائص مجتمعنا وطموحاته. فثم أسس ترتكز علها أي نظرية تربوية:
-       أساس مرجعي، فلا بد للنظام التربوي من الانطلاق من مرجعية معينة يؤمن بها ويعتقدها. فلا تكون مرجعية زمرة معينة، بل مرجعية شمولية كلية.
-       أساس هدفي، الأهداف المزمع تحقيقها من التعليم، فيجب أن تكون واضحة جلية بعيدة من التعميم، إنها أهداف عامة إجرائية ممكنة التحقق في وقت مضبوط، أما الفضفاض منها فجربناه فما أجدانا وما نفعنا!
-       أساس وسيلي: النظام التربوي التعليمي يضع رجله على الوسائل لينطلق منها إلى الأحسن، يُعُدُّ الوسائل المتاحة له لتحقيق مراميه. ولا يعتمد منها أساسا إلا على المتاحة له، لا المتوقعة أو الزائلة في المستقبل.
-       أساس توقعي تنبئي: النظام التعليمي ليس جامدا ثابتا على الحال الأولى التي وجد فيها، بل دائم التغير فيجب تتبع الأحداث وما يجد من حديث في الواقع والمجتمع مع تحسس تنبئي من خلال معطيات الحاضر وتجارب الماضي.
-       أساس علمي يتوقف على  دراسة خصائص التلاميذ الفكرية والنفسية والاجتماعية...وفهم ما يعززهم إيجابا وسلبا، ما يرغبهم وما يرهبهم، ما يتوقعونه وما لا يتوقعونه...

       إن المشكل الأساس الذي يعاني منه النظام التعليمي أو العملية التعليمية التعلمية بشكل عام هي أنها في معظمها قائمة على التناقض في المرجعيات والتشاكس في الفلسفات وغموض في الأهداف، الأمر الذي أدى إلى التبعثر وتمزيق رقعة التفكير واضطراب رؤية الحياة...فبدل أن يكون التعليم سبيلاً للترقي والتفكير والإبداع والإنتاج أصبح محلا للحيرة والارتباك والتلقين وإنتاج العطالة.
   إن النظم التعليمية الوافدة صادرة عن مرجعية غربية غريبة عن الواقع الذي تطبق فيه، ولا يتلاءم في واقع الأمر وضروريات المجتمع وحاجاته الأساسية. من سمات النظم التعليمية الوافدة:
-       انبثاقه عن مرجعية غريبة عن بيئة المتعلم وظروفه،
-       استهدافه أهدافا خاصة مباينة للأهداف المنصوص عليها.
-       انبناؤه على خصائص ومميزات الذين وضع لهم النظام.

وهذا ما يعلل صعوبة تنزيل نظام تعليمي وافد على واقع مدارسنا وكلياتنا. فالوسائل المتاحة لهم غير متاحة لنا، وما يرمي إليه النظام لا يتوافق مع أهدافنا ومطامحنا. والأطر التي هم في حاجة لها ليست هي الأطر التي نتوقف عليها. وبناهم الاجتماعية ليست هي بنانا، وإن كنا نحوهم نسير ونمطهم نقتدي.

     أما قول القائل إنه نظام ليس إلا. والنظام من نتاج العقول. والعقل لا بيئة له، فهو قسمة عادلة بين الناس، ومبادئه فوق الزمان والمكان، فلا حرج إذا في نقل نظامهم وتبنيه منهجا ومنهاجا...فمن أبشع الأخطاء المنتشرة بين الناس والمساقة على ألسنتهم.
نقول للجاهل بحقيقة العقل إنه لا يكون عقلا إلا إذا تشرب من الثقافة التي ترعرع فيها، أو شِيأَ له أن يترعرع فيها، وقبل ذلك لا يكون. فالثقافة هي التي تكون العقول، والثقافة نتاج مجتمع؛ بل أقطاب في المجتمع. العقل إذا نتاج المجتمع. ألم تعلم أن اختلاف الناس في التفكير راجع إلى اختلاف البيئات التي ترعرعوا فيها. وإن هذه البيئة هي التي تكون المعالم الفكرية والأحكام القيمية. اقرأ أن شئت جغرافية الفكر تأليف ريتشارد إي نسيت منشورات مجلة عالم الفكر العدد 312 

     النظام التعليمي الواقعي الناجح ، هو ذلك النظام الذي ينشأ في رحم البيئة، وترعرع في أحضانها، ويتلهف نحو البحث عن مشاكلها وحاجاتها رغبة في تقديم بلسم شاف لمرضاها، آخذا في الاعتبار ما للبيئة من خصائص ومميزات بغية إحداث تغيير عملي ملموس فيها، وبناء على ذلك فإن النظام التعليمي الصحيح مرهون بدرجة خدمته للبيئة والمجتمع،وقدرته على فض المشاكل وتخطي العقابيل والعقبات.

  مما استورده نظامنا التعليمي من طرق التدريس الفعالة اعتبار الأستاذ مسهلا للعملية التعليمية التعلمية لا ملقنا للمادة. لكن السؤال المطروح هو: ما نوع التلميذ الذي كان في الحسبان قبل وضعهم النظام؟
إنه تلميذ يحمل من الزاد ومن الثقافة ما يجعل واجب أستاذه مقتصرا على التسهيل والوساطة. تلقى في مجتمعه عن الطريق التنشئة الاجتماعية وداخل المحاضن و(الأسرة) ما تيسر له من المعلومات وشيء من المناهج، وهذه ينطلق منها أستاذه لينمي معارفه ويطور مهاراته. ونسألك أنت أيها المربي في الوطن العربي الحبيب عن نوع التلاميذ الذين تواجههم. وهل تكفيك / يكفيهم كونك مسهلاً غير ملقن، جرب وأخبرني. أقول بجراءة إنه صفحة بيضاء تماما. صحيح: إنه يمتلك ثقافة وهذا أمر منطقي لكنها مباينة لثقافة المدرسة أي مباينة، بون شاسع بين الاثنين. ولست أنفي أنك قد تجد في أوساطهم من تصلحه هذه الطريقة، لكن إن سلكتها فلن تتواصل إلا مع فئام قليلة.

     دعنا لا نبتعد كثيرا لنعلن عن حقيقة، ربما لا تجهلها: إن جل التلاميذ لا يمتلكون اللغة أداة التواصل؛ شفهيا أم كتابيا، دعْ عنك الأخطاء الفادحة التي يرتكبونها نحوا وتركيبا وصرفا ولغة  وأسلوبا ويستمر معهم هذا الداء إلى التعليم العالي وما بعده...

إصلاح التعليم لن يتحقق إلا إذا انطلق من الدراسة التشخيصية للمشاكل التي يعاني منها. فبعد جرد العقبات والنقائص بدقة متناهية نبني عليها خطط العلاج. وأصعب مراحل التطبيب التشخيص فإذا كان ناجحا ومضبوطا، وكان الرجل المتخصص بصيرا اكتشف الداء وحصل العلاج. لكن لم نمتلك الجراءة اللازمة لنعتمد على أنفسنا وأفكارنا وتجاربنا، لا زلنا معلقين بثدي غيرنا وأجسادنا أجساد بغال وأعدادنا تعدو الحصر، كثر لكنا كغثاء السيل! فمتى سننعتق؟ متى سنصارح أنفسنا ونقدم لها الحقائق كما هي في الواقع لا كما نسجله في الأوراق. ( عدد الناجحين %100)

وأقصى المحاولات التي نسمع عنها ونراها أن يقدم الرجل على النقل من هنا وهناك، هدفه تكثير الإحالات ليقال إنه كثير الاطلاع وباحث، فيأتي بشيء بعيد كل البعد عن النظام التعليمي، قريب من كل القرب من التعميم والتعتيم. كلام فضفاض عام يحتمل ويحتمل. يستعمل بعض الألفاظ والمصطلحات غالبها مساق حرفيا بلغتهم، فلا أنت أمام لغة عربية فصحى ولا أمام فرنسية أو إنجليزية.

ونقول للذي يقول بعكس هذا أو يخالف: سنهيئ لك فصلا دراسيا فهلم ونفد الذي تقول. إنك لن تستطيع إلى ذلك سبيلا. وإني أراه الآن يقدم رجلا ويؤخر أخرى بغيته تهيئ الجو للدراسة، وإن ضبطه الفصل لمغنم عظيم، وفوز جليل!! فليس من رأى كمن سمع...

     بعض الذين يتصدون للتنظير في التربية والتعليم من الغرباء عن الميدان، فأهل مكة أدرى بشعابها. وبعضهم يعرف ويدرك الموجود لكن يتجاهل ويأبى إلا الخوض في لعبة الألفاظ...!! نعرفهم ونسمع عنهم أيضا أنهم لم يفلحوا في فصولهم فلم يكن تواصلهم مع تلامذتهم كما يلزم ويطلب، ولما تقلدوا مهمة الإشراف التربوي طال لسانهم وكثر مقالهم...

   ما أحوجنا إلى الوضوح والدقة والتصالح مع الذات، والاعتماد عليها، كثيرة هي الكتابات التي تقرأ لكن لا تفهم. وإذا فهمت فعسير تطبيقها، أن لم نقل يستحيل. وليس القصور في فهمها راجع إلى ضعف مستوى القارئ أو تدني لغته...إنما راجع إلى نوعية اللغة التي كتب بها النص (الموضة الجديدة في الكتابة والتأليف) فأصحابها أعجبوا بنوع من الخطاب الجامع بين كلمات عربية غير فصيحة وأخرى مترجمة من أمثال: سيكولوجيا – سوسيولوجي – إيديولوجيا- تيمة...  وأخرى ما كنا نسمع بها مأسسة – بنينة - سيكوتربوي...

  عفوا إن المشكل مشكلنا: إن مستوانا تراجع، ومستواكم تطور ورقى. فأنتم أبلغ منا علما وفهما ودراية بأمور التربية والتعليم، ويجب أن نرتقي لمستواكم وسنحاول!! سنتعلم العرنسية!!

ولا أستبعد أن يكون فهم صاحبها ناقصا ومشوشا بضبابية، وأحتمل أن بعضهم لا يفهم مما يسطر أو يترجم إلا بعض الذي يحفظ مما كتب / نقل أو ترجم. إنما حلاوة الألفاظ وطنينها هو الدافع المحفز إلى استعمالها، والتعلق بالآخر له يد في الأمر كذلك. وأراني أرى بعضهم يفكر على النحو التالي: " إذا كنت ترغم في أن تصبح عالما فعليك بكتابة ما لا يفهم".

 دع عنك أن الأعمال المترجمة التي لا يدرى أولها من آخرها. والترجمة ليست بالعمل السهل!!

وهذا المذكور أبعاض من أسباب عزوف الناس/ أهل الميدان عن قراءة ما يهمهم. وأحرى بنا أن نشجع على اقتنائها بتضمينها المفيد النافع بأسلوب إجرائي مركز مشجع بعيد عن الإطناب واللف والدوران...بأثمان رمزية، فليس المجال مجال ربح وتجارة، ولم لا توزع مجانا في المؤسسات التربوية التعليمية إذا كان هدفنا حقا الرفع من جودة الأطر التربوية!!

  والذي أركز عليه هو كتابات إجرائية عملية واضحة نقطة انطلاقها الموجود، وصولا إلى الأحسن. وليعتبرِ الكاتب المتلقي ساذجاً إلى أقصى الدرجات لا يدرك من الأمور إلا ملموسها، وليتعمق هو كما طاب له ليقدم للناس زبدة ما أفاد! ليست تهمُّهُ أعداد الصفحات، بل نوعية المكتوب عليها، ونكفيه شر اللف والدوران والإطالة، فزمن اليوم زمن السرعة!!
" فالذي لا تفهمه لا نفهمه بدليل الأولى، والذي تفهمه قد لا نفهمه". وهذا الذي قلت لا ينسحب على الكتابات التربوية بل كذلك على غيرها التي سارت على هذا المَهْيَع، فشابها من الغموض ما شابها.

     الكتابات في التربية والتعليم ذات سمة وصفية، تتناول العملية بالوصف والتتبع والاستقصاء. أي بكلمة أخرى إنها لا تتعامل مع المشاكل المطروحة جردا وبحثا وحلولا. تركز على ما يجب أن يكون وتنسى الكائن الموجود من العوائق والعقبات التي تقف سدا منيعا أمام سير التربية والتعليم في مسارها الصحيح. وبهذا تكون بعيدة عن الواقع الحقيقي للمدرسة.

إن المدرس لا يجد صعوبة في التدريس إلا من شذ منهم، وإنما موطن الصعوبة في مشاكل أخرى تعترضه؛ من قبيل نوعية الحمولة الثقافية للطفل من حيث توافقها أو تنافرها مع جو المدرسة، والوضعية المادية للأسرة وقدرتها على تحمل المصاريف، وما يخلفه ذلك من مؤثرات نفسية وانفعالية، ومكانة المدرسة في المجتمع، وعلاقة المدروس بالواقع...كلها عوامل ومشاكل أساسية خليق بنا أن نتعامل معها بجدية وصراحة وموضوعية. وإذا ما غلبناها فالنجاح حليفنا إن شاء الله. ولن يتحقق ذلك باستيراد منهج أو خطة. فالمشكل ذاتي مرتبط بنا بالدرجة الأولى، ومشاكلهم ليست مشاكلنا. 

    أهلية الطفل وكفاءته ترافقه من البيت الذي نشأ فيه ونما، وخطاطات تفكيره من بيته تنبع. ونجاح الطفل/ التلميذ أو فشله آيل إلى مسقط رأسه أسرته، والفضل كل الفضل لبطولة أبيه وأمه، أو من كان لهم يد في تكوينه وتأديبه، ومنحه المادة الخامة، ورأس المال الذي يستثمره في المدرسة الثانية. ويكاد يكون هناك إجماع بيع العلماء والمتخصصين أن شخصية الطفل ولملامحها الرئيسية ينتهي تشكلها في حدود سن السابعة من عمره. وبعده يصعب استدخال ملامح جديدة. ولا أحب أن يفهم من كلامي هذا أني أستخف من مكانة الأستاذ ومقامه، فهو عظيم لا شك، وفضله جليل. لكن نجابة التلميذ في آخر المطاف تأتي من أسرته، وفشله منها كذلك...وحصول التلميذ على مراتب جيدة يعني أن أستاذه قد أدى واجبه على أحسن ما يطلب. وليس يعني ذلك أن الطفل جاء صفرا من بيته، فملأه الأستاذ في ساعتين أو أربع من الأسبوع، بل له زاد وحصيلة ورأس مال أهله ليكون كذلك.

    وهكذا وصلنا إلى مسألة مهمة وهي أن مشاكل التربية والتعليم لم تنبع بالضرورة من المدرسة، فالجزء الأكبر منها خارج عن جدرانها، آتٍ من خارج الأسوار. تدخل إليها في جيوب التلاميذ، وعقولهم ومشاعرهم، وزيهم ...لتتخذ بعد أمد سمة داخلية، فيتوهم المتوهمون أنها مولود في عش المدرسة، وهي ليست كذلك.

      فلسنا إذنٍ في حاجة إلى استيراد نظم ومناهجِ تربوية من خارج محيطنا. وقد كنتَ على بينة من حقيقة الأمر، وعرفتَ أن المدرسة ليست المتهم الحقيقي الذي هو أصل الداء. وأنها لا زالت تؤدي واجبها كما يرام، وإن كان ثمة خلل أو نقص فمن ضرورات الخارج عنها.
    مشاكل المدرسة واجب أن تفهم فهما شموليا كاملا. فهي ليست حقلا مستقلاً عن غيرها من الحقول، ولا تربطها بهم أية رابطة، أو مستقلة في برج من العاج عال مفارق للحياة والمجتمع.
ولكنها مربوطة بالحقل الاقتصادي والاجتماعي والأسري والثقافي والعلمي (في غمرة انتشار وسائل الإعلام) والإعلامي والفكري...

   وهي لن تكون مفلحة في رسالتها إذا لم تجد بجوارها أسرة مهيأة، مندمجة في بيئته المدرسية الجديدة اندماجا حسنا، فهي المدرسة الأولى المهيِّئَة للحياة قبل أن تُعِدَّ الطفل ليكون تلميذا.

ولكي تكون الأسرة كفأة في هذا فهناك شروط وضوابط تجعل منها الأسرة الناجعة صانعة الأجيال. فالأسر في حاجة إلى كفاءة عالية في التربية لتهيأ للطفل للمدرسة.

     قيمة وعادات وعقلية الأسرة المسلمة ليست في هي قيم أسر أخرى ترعرعت في بيئة جعلت منها نوعا آخر، بقيم أخرى، وسلوكات مباينة. فمن غير المعقول أن نلبس هذه لباس الأخرى أو العكس. فلن يصلحها ولن يلائمها، ولن يكون ذلك إلا بعد طول أمد ومشقة أنفس، بعد أن ننسلخ تماما من حصيلتنا الفكرية والوجدانية، ونستسلم لقيم الآخر وعادات بالكلية، وفي هذا ما فيه من الهوان والصغار والذل - إذ لا عز بلا إسلام- آنئذ ممكن أن ننقل نظمهم وننزل أفكارهم ونظرياتهم على مجتمعنا ومدرستنا وأسرتنا...

ويبقى عائق أخير أراه خطيرا وصعبا هو المحيط الاقتصادي والاجتماعي والأسري والفكري الذي ترعرعت فيه البرامج والمناهج الأجنبية، فكيف السبيل إلى توفيرها؟
  
    فوا أسفاه على قيم فقدناها كالكرم والسخاء، فغدونا لا نختلف عن مجتمع أناني. يقول كله نفسي نفسي. ولم تبق للإخوة النكهة التي كانت لها، ولا العلاقة بين أفراد الأسرة. فذهب الحس الجماعي وحلت الشراهة والأنانية، واستعاض الناس بالمال عن الأخلاق...وهذه ليست من شيمنا ولا أخلاقنا.

يقول قضب مصطفى سانو: "إن هذه النظم الوافدة، وبإسقاط مرجعياتها على الواقع الإفريقي ترك بذلك آثارا فكرية على الشباب الإفريقي المسلم، إذ إنها جعلت الأجيال التي تخرجت عليها تؤمن بضرورة الفصل بين العلم والدين المطلق، بغض النظر عن أن يكون الدين الذي يفصل بينه وبين العلم دينا كنسيا أو دينا منزلا من عند الله جل جلاله...فإنها  تمكنت من تخريج جيل من الشباب فارغ الأكواب، ظمآن الشفتين، مصقول الوجه، مظلم الروح...كليل البصر ضعيف اليقين"[1].

    ونظم التعليم الوافدة أو المبشرة بالفكر الوافد لم تكن لتصنع هذا لولا وجود قنوات أخرى تصرف من خلالها فكرها وسلوكها، فهناك تضافر وتعاضد بينها، واليد الواحدة كما تعلم لا تصفق. كذا فإن صلاح نظمنا لا يكون إلا إذا تضافرت الجهود: جهود وسائل الإعلام والمجتمع المدني والإدارة والأسرة...أما أن تبني الأسرة وتهدم المدرسة أو الشاشة فغير معقول، وعندما لا يتضح الهدف ولا تتوحد الرؤى والجهود من أجل بلوغه، فلتنتظر الاضطراب والغموض.

     إن هذه النظم التعليمية الوافدة لم تتوقف آثارها على مستوى نظرة الشباب إلى الغاية من الحياة والهدف الأسمى من الوجود الذي لخصته أساسا في جمع الأموال، واتباع الشهوات، وركوب أجود السيارات، واقتناء أجد الآلات المتطورة ...وإنما تركت ولا زالت تترك بصماتها الواضحة على نظرة الأجيال الصاعدة إلى واقعها، وظروفها التي تمر بها إذ إنها تعتقد أن التقدم والتطور مرهون بالولاء لكل ما هو غربي أمريكي...وبتمثل مبادئه وقيمه ومناهجه، وطرائقه في التفكير، وأسلوبه في الحياه، وفي الإدارة  وفي التفكير والتدبير. وهي تظن أن نقل هذه التقنيات من شأنه أن يجعل منها منافسا لهؤلاء.

     وفي هذا السباق يقول المهدي المنجرة: إن الأمر الأساس الذي يجب التركيز عليه هو أن العلم والتقنية الجديدة كلاهما من المكونات العضوية في الثقافة، وهما لا  يصبحان مرتبطين اجتماعيا، ومنتجين اقتصاديا إلا إذا  أدمجا في البيئة الثقافية التي يعملان فيها، وبذلك يصيران ظاهرة ديناميكية تستحدث التجديد والإبداع.

  ونفهم من هذا أن أكبر كذبة هي ما يسمى بنقل التكنولوجيا. ليس هناك شيء يمكن تسميته بنقل التكنولوجيا، فبمجرد استيراد المنتوج التكنولوجي، فضلا عن استيراد الفنيين للسهر على تشغيله وصيانته ليس بحال استيراد التكنولوجيا؛ فما يتم نقله تحت غطاء هذا المصطلح هو مجرد مواد عفا عنها الزمن وبأثمنة لا مسوغ لها، ولا سبيل للوصول إليها إلا باكتساب المعرفة وتنشيط الابتكار[2].

وما قيل عن استحالة التطور عن طريق نقل الآلات والفنيات والتقنيات الأجنبية يقال كذلك عن النظم التعليمية والتربوية. فكلاهما ينمو ويترعرع في محيطه. بل نقل هذه النظم أخطر، لأنها تكرس التبعية الثقافية، وتدفع إلى نقل التتمة؛ الآلات والتجهيزات التقنية.

     زد على ذلك أن وسائل الإعلام تشجع الاستيراد، فتعرض ما جد في السوق منها بطرق ذكية تفتح شهية المتلقي المشاهد لاقتنائها. ومن حقهم العرض والاتجار ومن حقنا الرفض، لكنا مستلوبون طغت علينا شقوتنا فانهزمنا أمام النضارة والعذوبة.
 
     يذكر إيف أوود في كتابه بأنه يتضح من دراسات الفعالية لتصير الثقافية الأمريكية، أن أكبر قدر من الاستهلاك يحدث في المناطق التي تشكو من مجاعة في المعلومات الحديثة والثقافة المعاصرة، بمعنى آخر فإن غياب المنافسة هو الذي يلعب لصالحها.[3] 

      فغياب المنافسة في كل شيء، في النظم التعليمية، وفي الصناعات، وفي التقنيات، وفي المعلومات... وغياب المشروع المحلي، وكل ذلك يشجع على الاستيراد، ويخلق مجاعة تدفع إلى الإتيان على الحابل والنابل والغث والسمين، وما أقل المفيد.

     وتجد بعضهم يملأه العجب، ويغمره الاندهاش، وهو يفك تلك الآلات، أو يتحدث عن مكونات الحاسب الآلي، أو يركب سيارة من النوع الحديث التقنية... وكأنهم صانعوها ومبتكروها.
      والجمهور من الجهال يصفقون لهم ويطبلون ويزمرون، إذ إنهم استطاعوا فهم اللغز وكشف السر. وفكرة التطوير أو الإضافة أو... لا تخطر لهم ببال. كما فعلت اليابان، فإن استوردت الآلات الغربية الأمريكية، لكن أعادت فهم آلياتها، وكيفية عملها وركبتها تركيبا جديدا، وفق مقاييسها وأذواقها، ففي التركيب الجديد نجد أن هناك إبداعا يابانيا ينسجم مع القيم المجتمعية ومع الخصوصيات اليابانية، وفق ذوق الإنسان الياباني في الحياة، فهناك إذن إبداع ذاتي[4].

فهذه المجاعة الثقافية خلقت قوة استيرادية عارمة طغت على كل المجالات والحقول، بما في ذلك حقل التربية والتعليم، حيث نقلت عنها النظم والبرامج، وطرائق التدريس، والتفكير... تحت لواء " العقل لا جغرافية له ولا بيئة".

     ليس هناك إذن تراكم معرفي في مجال البحث التربوي، ليس هناك خطاب تربوي مؤسس. ولربما حتى إرهاصات لتأسيس خطاب تربوي، نزعم بأن الكتابات السيكوبيداغوجية الرائجة لن تشكل سوى عوائق معرفية جديدة[5]. 

وينضاف إلى هذا تقلص واجب الأسرة، فنزل الثقل كله على المدرسة التي لم تطق حمل أعباء كثيرة، وتحملت مسؤوليات جسام من تربية وتعليم وتأطير، وضبط وتكييف، وخلق توافق مع المدرسة ... فأصبح ذلك ضغثا على إبالة، وازداد الطين بلة إلى بلة.

ومن هنا كان واجبا على الأسرة إعداد الطفل لمرحلة التلمذة الناجحة ومسايرة المدرسة، وفي حالة غياب تأهيل الطفل فإنه يتعثر ولا يتقن ما يناط به.

     وخلاصة القول في هذا: أننا في حاجة ماسة إلى نظام تربوي تعليمي تعلمي ناشئ في أحضان ثقافتنا واع كل الوعي بخصائص مجتمعنا، وإدراك المشكلات التي نعاني منها. منسق الجهود مع الأسرة والمؤسسات الأخرى. فنجاح أي نظام تربوي رهين بتضافر الجهود وتكاثفها. ومسألة التغيير والإصلاح لا تكون من جانب واحد وإنما هي عملية مشتركة، وإن كان لبعضها الأولوية وقصب السبق. كما نحن في حاجة إلى كتابات تربوية واضحة إجرائية تقف عند المشاكل لتعالجها بصراحة وجلاء، ولا تكتفي بالوصف الظاهر السطحي.

  وإليك الآن المشاكل الحقيقية في تعليمنا من خلال تشخيص وقع التلاميذ والطلبة:
-       ضعف لغوي، فجلهم لا يتقن الخطاب العربي/ كذا الأجنبي.
-       الجهل بقواعد النحو والصرف.
-       المحدودية في التفكير والنظرة الساذجة إلى الأمور.
-       طغيان الأسلوب الوصفي على حساب المنطقي، من تحليل ومناقشة.
-       الاكتفاء بالكتاب المقرر، يحفظ ولا يفهم.
-       التباعد بين المدروس من الدروس والواقع، حيث لا يفيدون من المعلومات التي يكتسبونها. فسرعان ما تنسى أو تهمل.
-       انعدام الحس الابتكاري والإبداعي، فلا يرمون تطوير ما درسوه وتعلموه.
-       غياب منهج علمي في السلوك والتفكير، في الدراسة.
-       غياب/ ضعف الحوافز الداخلية.
-       الاتكال على الأستاذ/ المدرس وغياب التكوين الذاتي.
-       سرعة الانسياق مع الأفكار والتوجهات، أي غياب حس نقدي من شأنه أن يعصم الفكر من الوقوع في أخطاء تنعكس على السلوكات.
-       الإرهاق والتعب من جراء كثرة الدروس، كثرة ساعات الدراسة والتركيز على الكم...والتركيز على النظري وإهمال العملي والتطبيقي وهو أهم وسيلة للتعلم.
-       أغلبيتهم لا يثمنون العلم والمعرفة، فلا فرق عندهم بين العارف والجاهل. فتجده مضطرا للتمدرس نظرا لضغط الأسرة.
-       غياب القيم النافعة والأخلاق الفاضلة؛ فتلاحظ أنه لا تميز خريج المدرسة عن غيره. (السرقة- الرشوة - الأنانية - التعصب للرأي - غياب الإتقان- الحرص على الربح بأي وسيلة...)
-       عدم الانضباط في الصف وشيوع سلوكات متهورة.
-       الإهدار والانقطاع عن المدرسة.
-       قلة/ غياب الإتقان في العمل، التحضير، التنظيم... وطغيان العجلة والسرعة.
-       المهم هو النجاح بأي وسيلة...
-       الاعتقاد بأن التفوق موهبة وليس جهدا ومجهودا...
-       انفلات التلميذ من الرقابة: رقابة الإدارة والأسرة...



[1]  انظر: النظم التعليمية الوافدة في إفريقيا – قراءة في البديل الحضاري – كتاب الأمة ع:63 ص:94-95-96
[2]  انظر حوار التواصل من أجل مجتمع معرفي عادل. ص:116.
[3]  انظر ثقافة الطفل بين التغريب والأصالة. مصطفى حجازي. ص:90
[4]   انظر حوار التواصل من أجل مجتمع معرفي عادل. المهدي المنجرة.ص:117
[5]   انظرالخطاب التربوي بالمغرب. أحمد أحدوثن. ص:151 سلسلة المعرفة للجميع. ع:28

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق