أيُّها الحمارُ
فإنا قد اشتقنَا إليك
حصلَ حمارٌ في حيِّنا على شهادةِ
الباكالوريا...!
فغارَ
منه الشبابُ والشاباتُ وفكروا في الكيدِ له...فاستطاعَ بذكائهِ المنقطعِ النظيرِ
الذي ليس له مثيل، أن يقلبَ السحرَ على الساحرِ ويفوزَ على أذكياءِ حينا
وأغبيائهم. واضطرهم أخيراً بذكائهِ وحنكتهِ أن يعترفوا بتفوقه وجودة فكره
ونصاعته...
والقصةُ؛ التي أرويها لكم مأخوذة عن ثقة؛ حقيقيةٌ
لمن أرادَ أن يصدقها ومن اختار طريق الشك فدعه يشك...فقد يوصله شكه إلى المعرفة أو
إلى القبر.
سأحكي لكم تفاصيلها ملخصاً طوراً مفصلاً أخرى لعلكم
تعتبرون بها...ففيها عبرةٌ لمن كان له قلبٌ سليمٌ وعقلٌ مستقيمٌ:
(( شاركَ حمارٌ من حيِّنا؛ حيّ التقدم؛ في
امتحان شهادة الباكالوريا وتفوقَ على التلاميذِ والتلميذاتِ من أبناءِ الأغنياءِ
والفقراءِ الأغبياءِ والأذكياءِ، كما تفوقَ على الطالبِ سوسو وفوفو وفيفي وسيسي ...وكذا
تفوق على الطالبِ يونس بن إدريس بن ميمون...
وذكرهُ أساتذته بخيرٍ، وخاصةً أستاذَ الفلسفةِ
السيد الدمشقي وأستاذة الرياضيات رقية بنت زيد وأستاذ الرياضة البدنية علال
المكناسي، فقد ذكر أنه فاز على التلاميذ والتلميذات في رياضة العدو والمصارعة...كما
كان يكلفه أستاذه بتدريب التلاميذ على ممارسة رياضة خاصة بالحمير تعجب أبناء
الأحياء والمدن...
نجحَ بامتياز وأدرك الرتبة الأولى في المؤسسة؛
وللإشارة فإن الفصل الذي كان ينتمي له التلميذ الحمار كان يضم خيرة تلاميذ المؤسسة
_ الفصل العنصري عفوا أقصد النموذجي _
فتقدم السيد المدير المروكي؛ في جو ملؤه النشاط والحيوية وأصوات الزغاريد والطرب-
وكان ذلك على نفقة جمعية الآباء وأولياء التلاميذ...قام السيد المدير ليناوله
الشهادة التقديرية والجائزة المادية فرفضهما؛ وكان ذلك بحضور النائب الإقليمي
وشخصيات مرموقة في الفكر والسياسة والفن...
فاحمرت الوجوه وسادها شيء غريب من الدهشة... أما
أنا فقد غمرني فرح جميل أشفى غليلي وأروى عليلي...
أخذ السيد الحمار مكبر الصوت وقال: أريد علفاً
شعيراً. ماذا عساني أن أفعل بهذه الأوراق ثم رمى بها في اتجاه الجمهور والحضور
فتطايرت من فوق رؤوسهم...وتطايروا يجمعونها متقاتلين...فصفقوا لذلك ظنا منهم أنه
فرح بهم...فقام الأستاذ الدمشقي فقبَّل رأس السيد الحمار أمام تلك الوفود
والجماهير الغفيرة وقال:
"إنه
ليرجى من هذا الحمار ما لا يرجى من آلاف المؤلفة من التلاميذ"...
فصفق الأساتذة وغمرهم نشاط جميل وابتسم السيد
النائب المحترم ابتسامة عريضة...لو علمتها الوزارة لأقالته من منصبه...لكنا كتمنا
أمره مراعاة للظرفية الخاصة التي يشهدها القطاع...وخفنا أن يفقد وظيفته فينبذ في
العراءِ...
أما مديرُ الثانوية فقد أغمي عليه من جراء
الحدث فحمولوه مسرعين به إلى القاعة المجاورة وقدمت له الإسعافات الأولية
والثانوية...وقيل قد مات بعد انفجار قلبه...ولقد سمعنا دويا أشبه ما يكون بدوي
مدفع...
توصل السيد الحمار بعد هذا الفوز المستحق
بطلبات مختلفة من مدارس مختلفة تقنية واقتصادية واجتماعية وفلسفية... ترحب به
طالبا في مؤسساتها ومشرِّفاً لها بوجوده، وتعهدت بأن توفر له منحا مالية مهمة
وتسكنه أجود المساكن وتوفر له كل المطالب الضرورية والحاجية والتحسينية الترفيهية...
فرفضها جميعها واقترح على المسؤولين أن يتابع
دراسته الجامعية في البلاد الأعجمية...فقوبل طلبه بالترحاب من رؤساء جامعات مرموقة
وأظهروا استعدادهم للتكفل بمصاريفه وعلفه وتبنه وكذا أكلته المفضلة ووجبته الشهية
الشعير؛ الشعير وما أدراك ما الشعير؟ مصدر قوته وحيويته واندفاعه وتفوقه...فاستوردوا
له أجود أنواعه، وأسكنوه أجمل البيوت...فعاش هنالك عيشة بذخ وترف...
هكذا
قرأنا عنه في مجلات عالمية وفدت إلينا من البلاد العجمية خِلسةً...
وبعد عودته من الديار العجمية بعد إتمامه
الدراسة الجامعية وحصوله على شهادة الدكتوراه وما بعد الدكتوراه في تخصص دقيق جداً...
متميز جداً... حساس جدا...استقبلناه بالورود والأزهار ونتف من الأشجار وحليب وتمر ...فأكلها ولم يشبع، ودفق الحليب
وألقى بالتمر؛ وطالب المسؤولين بحفنات من شعير من النوع الجيد...فأكل وشبع ونهق
وتمرغ في التراب...ثم بعد ذلك قام وبال وتغوط من غير سترة... فاستقبالنا فصافح
بعضنا ورفض مصافحة آخرين...وصفعَ كثيرين...وكنا نجد أثر النجاسة في أيدينا
أيماننا...
ولما علموا أن السيد الحمار يريد الزواج
تقدموا له بعروض مختلفات من أجمل الفتيات عربيات وعجميات صفراوات وشقراوات...فأبى
ورفض الزواج بالآدميات؛ وأمر بتزويجه من بنات جنسه من أتان جميلة...فتزوجها وأنجب
منها الذرية الصالحة...فسعت في الأرض مصلحة...
حكى الموظفون العاملون مع السيد الحمار المدير...
أنه كانَ منضبطاً للوقت حريصا عليه صارما في التعامل مع المخالفين للإجراءات
القانونية والأخلاق العملية.
وقد قاد الإدارة قيادة محكمةً وشن حرباً شرسةً
ضروساً على آفة الرشوة والمخدرات المنتشرة في الإدارات والمؤسسات...وغيرها من
المخالفات فشهد له الجميع بالتفوق سوى موظفٍ كان يمنعه من تدخين النارجيلة
(الشيشة) في المكتب...فقد كان الرجل ناقماً لا يذكر السيد الحمار إلا بشرٍ مغتابا تارة
وباهةً أخرى.
ولما وافتِ المنيةُ السيدَ الحمارَ عن سن
يناهز الثمانين تغيرت الأمور في الإدارة والمؤسسة؛ التي كان يدير رحاها؛ واستشرى
في القطاع الفساد وفرح الإداريون المنحرفون وامتلأت جيوبهم وبطونهم بالحرام
والحرام...فاقتنواْ أجودَ السيارات وأجمل الدرَّاجات وبنواْ أضخمَ العماراتِ
وتسلقوا أعلى الدَّرجات...
فدفن
السيد الحمار ودفن معه ماضيه وأمجاده...
يا ليتكَ أيُّها الحمار بقيت حياً...هكذا قال
الفيلسوف فيلسوف زمانه...
فإنا
في حاجة إلى خدماتك وجديتك وانضباطك وخفتك ونشاطك...
كلما
دخلت مكتبه تذكرته وتذكرت اتزانه ودقته وروعة أسلوبه وسلاسة خطابه...كما اشتقتُ كلَّ
الاشتياق ما بعده اشتياق إلى نهيقه وصوتـه الشجي العذب الجميل...ومنظر أذنيه
الجذاب حيث كان يشير بالأولى في اتجاه الغرب وبالثانية في اتجاه الفضاء...ولم يكن
يشير بها قط في اتجاه الشرق...
أيها
الحمارُ إنا قد اشتقنا إليك...!))
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق