Translate

الاثنين، 18 يونيو 2012

بناء المعارف


 ملف لو كنا نبني معارفنا لما ضاعت منا
نحو نظرية لبناء المعارف والمعلومات

                                            حنافي جواد
لو كنا نبني معارفنا لما ضاعت منا.
يشتكي الطلبة والتلامذة ومختلف الدارسين من ضعف قدرتهم على استدعاء المعارف والمعلومات التي درسوها في مراحل تعليمية متقدمة. ليس فقط المعارف التفصيلية، بل حتى بعض المحاور الإجمالية. ويعزون السبب إلى ضعف ذاكراتهم. أو يرجعون ذلك إلى عامل النسيان على اعتباره سلوكا طبيعيا، أو أن قدرة الذاكرة الاستيعابية لا تتحمل كل ذلك الزخم المعلوماتي، وكذلك لاختلاف المعطيات والكلمات والأفكار وتعددها، فمنها ذو الاجتماعي؛ واقتصادي والثقافي والذاتي...

    سبب هذا الضعف أو العجز ليس آيلاً إلى ضعف الذاكرة ولا إلى تداخل الأفكار والمعطيات ولا إلى عامل النسيان، ولا غير ذلك من الأسباب، إنما حقيقته هي أننا لا نمتلك منهجية لبناء معارفنا أو بكلمة أخرى: ليست لنا فلسفة تعليمية محكمة تؤهلنا لترتيب المعارف والمعلومات والمعطيات التي ندرسها ونتلقاها، وليس يخفاك أن التنظيم من أس الأسس  في الحياة. فلو أنك وضعت حقائبك في صندوق سيارتك غير مهتم بتنظيمها وترتيبها لما تحمها صندوقها. لكن لو نظمتها بذكاء وحرصت على ملء فراغات الصندوق بصغارها...لاستحملها، بل وزيادة. فهذا مثال يوضح دور التنظيم وفائدته. أزيدك شيئا اعلم أن التكنولوجيا أساسها التنظيم وهي نتيجة تنظيم، وكل ما تراه أمامك في هذه اللحظة فهو ناتج عن التنظيم وحسن الترتيب والاستثمار، ولولا هذا التنظيم لما كان للحياة ذوق ونكهة. فمن مجتمع الغاب إلى مجتمع الكهوف إلى مجتمع الخيام إلى  مجتمع الدور إلى مجتمع العمارات وغدا ما ندري ما سيؤول إليه الأمر، وذلك بفضل البناء والتنظيم.

      إن المعرفة تبنى ولا تعطى جاهزة. فعندما نساهم في بناء المعارف والمعلومات التي نتلقاها من مختلف الوسائل المكتوبة والمسموعة والمرئية....ونضفي عليها صبغتنا الذاتية، ونضعها في المكان الذي يليق بها في أذهانا يسهل علينا استذكارها متى شئنا. أي يسهل علينا التحكم فيها. أما المعارف التي نحشدها حشدا إلى أذهاننا، نستدخلها كما هي في مصدرها ولا نحتك بها احتكاك نقد وتحليل وتفكيك، وإعادة ربط وإدماج... فإنها سرعان ما تذهب مع الرياح فمكانها الذاكرة الدنيا ولا تتجاوزها. أو حتى إن وصلت إلى الذاكرة القصوى بالتكرار، فإنها لا تمكث هنالك. ذلك أنها لم تندمج مع غيرها من المعلومات، التي يحتوي عليها الفكر، فلا تأخذ مكانها المناسب. إن ترابط الأحداث يساعد في تذكرها سواء أكان الترابط وجدانيا عاطفيا أم تلقائيا أم من خلال إحداث خاصة. إن الترابط يساعد في استدعاء جميع تفاصيل المادة المتعلمة، كما أن السياق الذي يحدث فيه الخبرة أو التعليم يساعد في استرجاعها، وذلك لاقتران الحدث أو التعلم زمانيا ومكانيا في سياقها العام [1].
والذي يبني معارفه يدرك قيمتاه ومكانها ويثمنها، إذن كيف تتم عملية البناء هذه؟
1- الفهم السديد للمعارف والمعلومات قبل استدخالها للذهن. والفهم هو الربط بين مكونات عناصرها، والمقارنة بينها، والتساؤل عنها...والفهم يتوقف على عملية تجزئ المعلومات، والأفكار لتصبح إجرائية ملموسة قابلة للملاحظة. ثم المطلوب تمحيص/ فحص كل جزء على حدته بعد إرجاعه إلى أصله الأول. وتم آليات لضبط هذا الفهم.
- الانتباهُ والتركيزُ وتجميعُ الذهنِ. ويتبعُ ذلك تجنبُ الحركاتِ، وكل الشواغلِ بما فيها التفكير في موضوعِ آخر مجاور للموضوع المنصب عليه بالانتباه.
- التؤدة والتحلي بالحكمة، وترك العجلة والسرعة، والأحكام القبلية. فقد يبادرك فكرة بسهولة الموضوع أو أنك سبق أن درست واطلعت عليه في مكان آخر، فينشغل فكره بهذا عن الانتباه، وسيكون لذلك أثر سالب على فهمك.
- الرغبة في تلقي المعرفة والاستفادة، أو التعطش إلى طلب الحقائق للإفادة منها. إن درجة حبك المعرفة والاستفادة لخير دافع إلى اقتناصها، فهذا ضابط خطير يجب التركيز عليه، والتفطن له.
- التسميع والتكرار، أي القراءة بصوت مرتفع. وكذا التفكير بصوت مرتفع. فكأني بالمسمع يقرأ أولا. وهذا نشاطٌ مهم للفهمِ، ويسمعُ ثانيا، وبهذا فقد جمع بين الحسنيين.
- الاستعانة بالقلم لتسجيل الملاحظات وما يراه الدارس مهما في فهم الموضوع. فإن كان كتابا فالأولى أن يخط بقلمه في هوامشه وحواشيه أو يتخذ دفترا خاصا به. يدون عليه محاوره وجزئياته الرئيسة.
- التساؤل مفتاح أساسي من مفاتيح الفهم. فالقدرة على طرح السؤال جزء كبير من الفهم، والمتسائل لا بد أن يجد جوابا. فالذي لا يقدر على السؤال لم يفهم، وإلا فإن فهمه مشوش مضطرب.
كذلك دقة السؤال دليل على دقة الفهم. ونحفظ:" السؤال نصف الجواب". إن المتسائل واجد الجواب إن عاجلا أو آجلا.

1-       الربط بين أجزاء الموضوع من جانب ومواضيع أخرى درست قبلا.
فالمعارف تتكامل ويتأسس بعضها على بعض. وفهمها الكامل يكون عندما تستدعى المعلومات والمواضيع الأخرى باعتبارها مكملات للفهم والموضوع. فالتفكير السديد هو الذي يتناول الأمور في كليتها: فليس ثمة فواصل/ حواجز بين الحقول؛ بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والنفسي والفني والثقافي... كل ذلك يتلاقح ويؤثر بعضه في الآخر. فلنعلم أن الأصل في الأشياء/ مادية كانت أو معنوية/ التداخل والانسجام والتلاقح، أما التقسيم والتفريع فهو كائن لغايات تربوية تعليمية.
بين الحفظ / والاجتهاد
الحفظ: وهذا الأسلوب في التعليم والتثقيف لا يعنى إلا بحشو الذهن بالمعلومات. ومخرجاته في أحسن الأحوال متعلمون ذوو اتجاهات تهتم بتكديس النصوص في الذاكرة دون النظر في محتويات النصوص وفائدتها في تحسين ظروف المتعلم وزيادة قدراته على التعلم الذاتي[2] .
فرق كبير وكبير جدا بين من حفظ بطريقة ببغائية قاصرة ومن يفهم ثم يعبر بطريقته ويتدخل بعبارته ويحذف ويضيف ويكمل. ويمكن تركيز أهم الفروق فيما يلي:
-      الفهم يكسب الطفل ذهنا متحركا قادرا على التكيف مع الجديد.
-      الحفظ يجعل الرجل/ الطفل/ المتعلم عموما مقلدا معلقا بغيره.
-      الفهم يكسبه جرأة وحرية، فلا يخشى التصريح برأيه ولا التعبير عنه.
-      الحافظ دائما متأخر عن الركب، لا يقول إلا بعد السماع، يعيش على أفكار غيره؛ صحت أم أخطأت. محتقر لنفسه. لا يرى له الأهلية للإدلاء بدلوه في الموضوع أو الأمر.
-      الفاهم يستطيع أن يدخل بفكره غمار موضوعات/ مسائل لم يسبق له أن اطلع عليها باستخدام كفاءاته وقدراته بينما الحافظ لا ينطلق إلا مما يحفظ/ مما لقح به.
-      حفظ الصم خال من الانتقاد والتمحيص. وما نجهل ما للنقد – البناء من فعالية وتأثير في بناء المعارف وتكوينها وتجديدها. بينما الفهم داع صاحبه إلى إجالة النظر والنقد.

      هنا سؤال طارح نفسه بإلحاح شديد: كيف بالذي يجمع بين الحفظ والفهم؟

لا نقول له إنك جمعت بين الحسنين بالنظر إلى الوقت الذي استغرقه في الحفظ، وكان الأحرى به والأخلق أن يقضيه في فهم مواضيع أخرى، واستيعاب مسائل جديدة، عساها تكون منمية لفكره. وهنا يجدر بنا أن ننوه إلى أن الفهم نسبي...

    فنقول لهذا ثقْ في نفسك ويكفيك الفهم، ولتشتغل به، وليكن همك المقعد المقيم؛ فذلك أفيد لك وأنجع. لكن ما دامت المدارس المغربية إلى هذا اليوم تعتمد أسلوب الحفظ، وإن نفت ذلك، فعليك يا مريد النجاح أن تحفظ وتفهم!  
2- تنزيل تلك المعارف والمعلومات المفهومة على الواقع وإطباقها عليه: أي تحويلها من الشكل النظري غير الملموس إلى العملي المرئي الملموس. كيلا تبقى صورة في الذهن خالية من المعنى الواقي من النسيان. فالذي لا ينبني عليه عمل لاغ. فلا يحسن الاشتغال به والانشغال، فذلك يدخل في خانة الترف الفكري. ألست على وعي بأن معظم الأمور التي تستطيع استرجاعها بسرعة، متى ما شئت، هي الأمور العملية المتداولة لديك؟ فممارستكها جعلتها جزء لا يتجزأ منك. إنها ترسبت في ذهنك وأخذت مكانا في قلبك.

     فرق بين أن يتداول التلميذ/ الطالب تلك  المعارف والقواعد النظرية التي درسها مطبقا إياها على واقعه ومستفيداً منها في تعلماته وتصرفاته... وبين آخر تركها متراكمة في ذهنه، فلا يعود إليها، بل منهم من لم يستدخلها إلى ذهنه بعدُ. أن ما ندرسه إنما من أجل التكيف مع الواقع، وإصلاح ما فسد منه (الاجتماعي – النفسي – الفكري – العلمي – الفيزيائي...)

فالمعلم النجيب، محب الخير لتلامذته ومتعلميه، هو الذي يحرص الحرص كله على ربط المعارف والمعلومات والنظريات بواقع التلميذ/ الطالب. ذلك لكي يفيد منها، وينهل منها ما يسهل له العيش والتكيف، وليتجنب الأخطاء التي وقع فيها، وذلك من أجل اختصار الوقت. وهذه هي فلسفة العلوم كلها.
      الدرس الناجح هو الدرس الذي ينطلق من الواقع أكان الواقع اجتماعيا أو ثقافيا أو علميا أو طبيعيا أو فيزيائيا ليخدم الواقع، ويؤثر فيه، وهكذا دواليك. أما الدرس النظري البعيد فلا يؤت أكله، ولا يفاد منه، بل إنه يكرس التباعد والفراق بين الكتاب الأكبر الواقع والكتب الصغرى المقررات. والأصل أن يقرب بينهما، ويجعل الأولوية للكتاب الأصل.

     ويكون هذا الانطلاق صحيحا إذا وصف الواقع وصفا دقيقا علميا. كما هو دون زيادة أو نقصان أو كذب. فكثيراً ما تصور المقررات الواقع تصويراً غير حقيقي/ كاذب، كما أن وسائل الإعلام لا تعكسه كما هو، بل تعكس جزءاً منه، والجزء بطبيعة الحال ليسَ كلاً وشمولاً.

   كما أن طرح المشاكل يعتبر لبنة أساسية في التربية والتعليم. طرحها بلا زيادة ولا نقصان، أي طرحها على طاولة المداولة كما هي ثم تفكيكها وفهمها الفهم السديد. ومحاولة تشخيص موضع الداء؛ وللعلم فإن طور التشخيص من أصعب الأطوار. وإشعار المتعلمين بصعوبته، وبضرورة التحلي بالحكمة وعدم التحيز إلى موقف من المواقف، أو حلٍّ جاهزٍ، سالكين مسلك التتبع الدقيق والعلمي، وترك الفرصة والوقت المناسب لإيجاد الحلول وبنائها.

 إشراك التلاميذ في إيجاد الحلول عمل بنائي هام ومفيد، يجعل من المعارف النظرية معارف عملية مرئية. كما أنه يطرح المشاكل، ولا تخفاك فائدة ذلك، من حيث الوعي بالمشاكل وتجنبها، ومحاولة القضاء عليها، أو على الأقل التخفيف منها، كما أن إيجاد الحلول يقتضي توظيف المعارف والمعلومات وبنات الفكر، واستعمال الدهاء والذكاء وما يستتبعه ذلك من اكتشافات وفهوم جديدة تبنى على منوالها استراتيجيات ومناهج، والاحتكاك بها مغن للتجربة وموقظ الذهن.

4- نقدها وتمحيصها وغربلتها:
منهج النقد منهج أساسي لبناء المعارف، وقد يعني النقد عند بعضهم التسلط على الأفكار والمعلومات بالتفنيد والدحض والإبطال، وقد يعني كذلك الحرص الشديد على تبيين العيوب ومزالقها وأخطائها فقط، وهذا ليس هو المعنى التام الكامل للنقد، فهو منهج قائم على أسس وأركان وضوابط، وليس سلاحا في يد من هبّ ودبّ من الخلائق يستعمله للطعن على آراء الآخرين ومواقفهم.

النقد سلوك أخلاقي تقويمي تقييمي للأعمال والأفكار والسلوكات بناء على مرجعية عليا فوق الذات: إذ لا يليق أن نجعل أنفسنا وأفكارنا المعيار الأول والأخير في نقد تصورات الآخرين وتصرفاتهم. أو بالأحرى الظن أن بحوزتنا المعارف والآراء التي لا مرية فيها ولا جدال. فكل من على ظهر الأرض يؤخذ من كلامه ويرد، إلا محمد صلى الله عليه وسلم بهدي من ربه عز تعالى وجل. إذن فقد يكون الذي ينتقد على صواب وأنت على خطأ. فحذار من هذا.

    إن النقد من أجل النقد سلوك لا معنى له، دال على مرض صاحبه وأنانيته. فيجب أن يبنى النقد كي يكون بناء، على معطيات وأفكار سديدة، وملاحظات نافذة سواء أكان نقد إيجاب أو نقد سلب. ونقصد بنقد الإيجاب الحكم على الشيء أو الفكرة أو الموقف أو الكتاب بالحسن، أي كون صاحبه أجاد أو أفاد أو أحسن، أو هي الأوصاف جميعا.
لكن يجب أن تشفع هذه الأحكام بالأدلة والحجج المبرهنة على الحكم والدالة على صحته، مع سوق الأمثلة والنماذج التوضيحية.

ونقصد بنقد السلب الحكم على الشيء أو الموقف بالقبح أو عدم الإصابة أو الخروج عن المقصود أو الخطأ أو المجازفة... أو ما شابه ذلك من الأوصاف الحكمية.

والواجب أن تشفع كذلك بالبراهين والحجج، والحرص كل الحرص على الدقة فيه، وترك المبالغة. والاحتراز في استعمال ألفاظ مؤذية جارحة تصريحا أو تلويحا. خصوصا وأن المنتَقَد في هذه الحال يكون مفرط الحساسية من الألفاظ والتصرفات وحالته النفسية تكون متوترة إلى حد ما، ذلك أننا لم نتلق تربية تجعلنا نتقبل الانتقاد برحابة صدر وسعته، إذ تعلمنا من معلمينا أن ما نتوصل إليه حق كله، وأن المنتقد عدو كاره لنا.

  من الأشياء التي كرست هذا التصور كذلك طبيعة الانتقادات التي وجهت إلينا في يوم من الأيام، فعممناها على سائر الانتقادات.

     لقد ووجهنا بانتقادات لاذعة، محملة بسم أقسى من سم الأفاعي. فجرح الأفاعي يشفى، ويبقي الدهر ما تجرح الألسن. فمنه تكرس هذا التصور.
    من أدبيات الانتقاد أن يبدأ بانتقاد الإيجاب ثم بعده انتقاد السلب، فلا بدَّ بالضرورة من أن يكون كلام المنتقد شيء يحسن الإشادة به والافتخار من تصرفات المنتقد. وبهذا يمهد للقبول والاعتراف. ويكون ذلك أحسن وأكثر قابلية للاستجابة إذ قدم في طابق جميل حسن، وفي أوان من الكلمات المعسولة النفاذة في الأعماق، وأساليب جميلة كلها أدب وتقدير واحترام، صحبة ملامح وجه كله ابتسامة وسرور، وأسارير ملآى بعبارات الحب وثرية بالصفاء. فابتسامك في وجه أخيك صدقة...

    النقد سبيل قويم إلى تنمية الأفكار وبنائها. فما كانت الأفكار لتربوا لولا سقيها بماء النقد. فينمو غصنها ويشتد عودها وتوتي أكلها وهكذا دواليك. فتوقفنا عن نقد أفكارنا وأفكار غيرنا يعني توقف الفكر والأفكار عن النمو، ويعني كذلك أن الحياة توقفت والحياة لم تتوقف، بل دائما في تطور واستمرار، والتي توقف حقيقة هي أفكارنا.
هَزُّ الأفكار وتحريكها بآلة النقد، يكشف لك  عن حقائق كنت تجهلها، وعن تعثرات، الأولى بك أن تسدها وتتممها. فالأفكار، كما علمت لا تكتمل إلا بالنقد والنقد ثانية. فلا تغترن بالصورة الحالية، أو بالشكل الحالي...فإن بحثت عثرت بالأفيد والأجود.

   سلوك النقد هذا يجب أن يكون ديدننا ومنهجنا، وأن يكون منهج تلامذتنا وأبنائنا. فهو حاجبنا وحاجبهم من آفة  التقليد ومرض المحاكاة، الضارب بأطنابه وجذوره في ذواتنا وضميرنا. وحتى الذين يدعون أنهم قد تخلصوا منه وانعتقوا من قيده تلفيهم آخر التطواف مقلدين وهم غير واعين. لهذا قلت إنه ضارب بأطنابه في نفوسنا.

  "القصور البشري هو الذي يعطي المشروعية للنقد والمراجعة والتصريح لهذا فإن كل الإنجازات البشرية، وعلى كل المستويات، وتظل قابلة للنقد حيث جرت سنة الله في الخلق أن تقوم مفارقة ما بين النظرية والتطبيق ومن خلال النقد نحاول الارتفاع بالتطبيق إلى مستوى النظرية أو التعديل في النظرية نفسها"[3].

    فله إذاً فائدة مزدوجة. فائدة تقريبية، أي التقريب ما بين الممارسة والتصور/ بين النظرية والتطبيق. وفائدة أخرى تعديلية، وهي التي أثبتنا معناها سابقا، وعبرنا عنها بتطور المعاني والمعارف وتنميتها. ونضيف فائدة أخرى، وهي الفائدة التحفيزية أو التجديدية، ومعناها أنك عندما تنتقد أحدهم انتقادا فعالا يلقى الإجابة، فإنك تدفعه إلى العمل دفعا، وتحفزه إليه تحفيزا، فينشط للعمل ويندفع له؛ سواء أكان نقد سلب أم نقد إيجاب. أما التصفيق لكل الأعمال والأفكار فليس مفيدا لها ولأصحابها، خصوصا إن كانوا من أهل الغرور والإعجاب. العمل الكامل والفكر الكامل من أعظم الأساطير وأكبر الأكاذيب التي دفعت بالكثير إلى التقاعس عن المزيد، والركون على الموجود. واختيار الجاهز والسهل.

    يذهب كارل بوبر في حثه على السلوك النقدي بعيدا عن هذا فيقول: "إن منهح العلم منهج المناقشة النقدية، هو الذي يجعل من الممكن لنا أن نعلو ليس فقط على أطرنا المكتسبة من الثقافة، بل أيضا على أطرنا الفطرية. هذا المنهج يجعلنا نعلو ليس فقط على حواسنا، بل أيضا على منحانا الغريزي جزئيا نحو اعتبار العلم  كونا من الأشياء المحددة وخصائصها"[4]

فرغم ما يكتسي الموقف مبالغة ومجازفة خطيرة، بل إن صح القول غير ممكنة، إذ كيف يعقل أن يقلب النقد الفطرة والغريزة؟ على اعتبارهما يتضمنان معنى الإنسانية؟ فعندما نتحدث عن الفطرة وعن الغريزة فنحن نتحدث عن الإنسان، بهذه المواصفات التي نعرفه بها. ومسُّ التغيير أو التبديل تلك الثوابت سيغير لا محالة من الإنسان، ولن يصبح الإنسان إنسانا، بل كائنا آخر، ولعل هذا هو الذي دعا كارل بوبر إلى الاعتماد على أداة الشك أو النسبية" جزئيا" في قوله: " وعلى منحاها الغريزي جزئيا...". رغم ذلك فإننا نأخذ منه  تأكيده على الفكر النقدي.

   فرق بين النظرية والتطبيق، بين القول والفعل. فكثير من الأمور التي نتبناها وندعي أننا نؤمن بها، لكن عند التطبيق، أي تحويلها من القول إلى الفعل أو من الاعتقاد إلى السلوك، نجد صعوبة أو بكلمة أدق: لا نفعل الذي نقول:إذ كيف نصب انتقادنا على غيرنا، معلمينا أو تلامذتنا أو مسؤولينا ...أو ما شئت وعندما نوضع في المحل، في موقع الفعل لا نفعل الذي نقول؟؟".

   مثل هذا كمثل أستاذا كان مكثارا من  انتقاد طلبته ويوم حضرنا لمناقشة أطروحته لنيل درجة الدكتوراه وقع فيما كان يحذرنا منه!!

    نفيد من هذا، وما أكثر ما يقال في ذا الأمر، أننا إذا قصدنا الانتقاد، أن نحرص على تجنب السلوك / الفعل..الذي ننتقده، وأن يكون آخر عهدنا به هو ذا، أي عند الانتقاد. وإن كنا من فاعليه ومنتقديه فأخذا لذلك بعين الاعتبار. وعملا عملا بمعية المنتقد على إيجاد الحل معاً. وبحثا بحثا عن سبب التواني والإهمال.

   وآخرا، إذا رغبت في انعاش معارفك، واستثمار أفكارك استثمارا مربحا فعليك بنقدها ونخلها بين اللحظة والأخرى، فهذا ينميها ويزكيها. ولا تركن إليها قانعا بها ظانا أنها كاملة تامة، فذلك غير مفيد ومسلك غير موصل. ثم أضيف أنه يحسن بك لبلوغ التمام النسبي، أن تدون انتقاداتك، في جنبات كتابك أو في كراسة خاصة بوجهات نظرك في الذي تقرؤه أو تدرسه أو تسمعه أو تشاهد، افعل ذلك كل مرة ولا تتوان.

واحرص كما نوهنا سابقا على تدعيم مواقفك بما معك من دليل وحجة. إذا فعلت ذلك تكون شريكا للمؤلف في التأليف، وللمنظر في التنظير، وللقائل في القول، فإن من شأن ذلك أن يكسر/ يضعف قوة التأثير. لذا ننصح بمناقشة وانتقاد ما نشاهده في وسائل الإعلام سينما أو تلفاز... لنقلص تأثير المشهد، وعلى الخصوص إذا كنت بين الأطفال والصغار في طور تشكل ثقافتهم، وستكون تلك مناسبة لبناء حسهم النقدي.

5- منهج المناقشة والحوار قادر على بناء المعارف.
     لن أخوض في معاني المناقشة والحوار حرصا على مداد قلمي وبنات جهدي وطاقاتي. فهما من المعلومات من الحياة بالوجود والحضور العقلي والوجداني. وتلميحي هنا واضح إلى الذين يحلوا لهم ويطيب أن يخوضوا في مثل ذه المصطلحات والمعلومات مالئين الصفحات تلو الصفحات. تقرأ الكتب والمؤلفات ولا تظفر بإفادة جديدة إلا بشق الأنفس، وقد تعود من رحلتك لا بخف ولا بخفين.

   أعود والعود أحمد إلى بيان مسائل المناقشة والحوار، أو بالأحرى منهج المناقشة والحوار. فلهما منهج يضبطهما ويؤطرهما ويقننهما ويجعلهما في مساراهما الصحيح.

    المناقشة لا تكون مناقشة إلا إذا تأسست على أخلاقيات على رأس تلكم الأخلاقيات معرفة المتناقشين أدبيات النقاش، وأخلاقه، منها: أن تكون قابلا للاقتناع، بفكرة زميله أو رأيه، فإذا لم تتوافر لديه هذه القابلية فليترك النقاش، ولتقبع في مكانه.
لن يجني هذا وهو حامل هذه الفكرة إلا النصب أو التعب.

    وهذه القابلية غير مرتبطة بالحجة والبرهان، ولا بالدليل وقوته، بل بأمر في النفس. خذ مثلا متحاوري قناة الجزيرة فما حدث يوما أن اقتنع أحدهما برأي الآخر. لا لأن القابلية غير متوافرة. وقوة حجة الخصم هنا ليست هي حاسمة الأمر، ما دام الطرف الثاني غير مقتنع بقابلية الاقتناع. ما دام يرى ذلك فلن يكون الاقتناع، وعليه فإن النقاش هنا يساوي صفراً.

   ومنها أن يدعم رأيه بما معه من الأدلة الدالة على صواب رأيه وصحته. وأجود الأدلة الأدلة الشمولية، التي تحشد جملة من  البراهين.  إنما ذلك أجود لأنه يؤسس لصرح معرفي كبير، ويولد اقتناعا أكبر، إذا توافرت كما ألمعنا سلفا القابلية. وتتفق معي إذا استحضرت مسألة تداخل المعارف وتلاقحها وتتزاحم المباحث وتضافرها لخدمة بعضها، فالخطاب السياسي لا يُفهم الفهم الكامل إلا إذا انظم إليه الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والثقافي والتربوي... كذلك التعليمي والتربوي لا يفهم إلا باستحضار المناخ الأسري، والمنهج التربوي، وموقع المدرسة ومحيطه، ونوعية المدرسين فيها، والخصائص، والفروق الفردية والاجتماعية...

  فإذا كان دليل زميلك قويا مقنعا فدع الهوى ووافقه عليه ثم تبنه سلوكا ومنهجا.

عن جهل بعضهم يستمسك برأيه لأقوال لا ترقي إلى الدليل، فإما هي أوهام وتخيلات أو تجارب ذاتية، لم ترق إلى مرتبة القواعد والقوانين العامة التي تؤخذ بالاعتبار، فتجده يعاند، بلا حجج، يخاصم لجعلها صحيحة عنوة. وفي هذه الأثناء يتحول النقاش والحوار إلى خوار ونعيق...
    ليس يعني تبنيك للتصور أو الموقف أو الفكرة مدة طويلة، إلى درجة أصبح فيها هذا الموقف أو التصور كلحمة منك، ليس يعني أنه صحيح ورأي سديد. هذا الخطأ وهذه المغالطة دفعت بعض كبارنا إلى الاستهانة بتجاربنا وتصوراتنا نحن الصغار الذين نشاركهم الميدان نفسه. وهذا كذلك راجع إلى مغالطة أخذت مكانها في فكرنا ونفوسنا وهي الفهم الخاطئ للعمر، أو بكلمة أسهل الخلط بين العمر العقلي والعمر الزمني، فقد يكون عمرك الزمني ستون سنة، وعمرك العقلي سبعة عشر سنة. وقد يتذرع بطول التجربة، لكن طولها أو عرضها ليس مقياسا، وإنما العبرة بنوعيتها. فرب تال بد شأو مقدمي: أي عسى أن يكون الأخير زمانه أفضل من الأول.

   إذن قوة الحجة والبرهان فوق هذا ذاك، فلا عبرة بالسن ولا الجنس ولا بغيرها من الاعتبارات الواهية والوهمية- فطفلك قد يصيب وأنت قد تخطئ، وتلميذه قد يكون الحق حليفه وحليفك أنت الغلط...

   ومنها أن يكون فاهما للموضوع المتناقش أو المتحاور فيه فهما كاملا حتى لا يتيه في جزئيات تاركا اللب وبيت القصيد. ويتسنى هذا الفهم إذا توافر الانتباه وتم الإصغاء وكمل، ومُسحَ الذهن من السابقات من الأفكار حول توجيه الموضوع.

    ومنها أن يتفقا على الاصطلاحات ومعاني الكلمات الرئيسة في الموضوع كيلا يكون النقاش فيها بعد، أو كيلا تعيقه. وإن كان كارل بوبر لا يتفق معنا، إذ يقول:" لا جناح في أن أذكر أيضا أن ثمة صورة خاصة من أسطورة الإطار/ أي من الأكاذيب التي تحجب العقل وتمنع الإنسان من الوصول إلى الحقيقة/ تتسم على وجه التعيين بسعة الانتشار، وهي النظرة القائلة يجب أن نتفق،  قبل المناقشة على مفرداتنا، ربما عن طريق تعريف المصطلحات.

    لقد ناقشنا هذه النظرة في مناسبات شتى ولا مجال أمامي لكي أفعل هذا مجددا. فقط أبغي توضيح أن هذه النظرة تعرضها أقوى الأسباب الممكنة. قصارى ما تستطيعه التعريفات، بما فيها ما يسمى التعريفات الإجرائية هو أن تحول مشكلة معنى المصطلح محل البحث عن مشكلة تعريف المصطلحات. بهذا يؤدي بنا مطلب التعريفات إلى ارتداد لا نهائي ما نسلم ما يسمى المصطلحات المبدئية، أي المصطلحات غير المعرفة، لكن هذه المصطلحات المبدئية، دائما ما تجدها ليست أقل استشكالا من غالبية المصطلحات المعرفة[5]. 
   
   لا نتفق مع كارل بوبر في جعله الاتفاق على المصطلحات قبل المضي في النقاش أمرا معيقا للحوار والمناقشة. وأظنه كان سيتفق معنا لو أننا بينا له أمرا وهو هذه المصطلحات التي يجب في نظرنا تحديدها، وفي نظره لا يجب، ما هي إلا آليات وأدوات سنعتمد عليها في نقاشنا، وتحديدها يربحنا الوقت لندخل في صلب القضية / المسألة.

صحيح أن هذه المفاهيم يمكن أن تكون محطة نقاش وسبر وتوضيح، لكن إذا كانت هي الهدف الأصلي منه، أما وهي وسائل فواجب الاتفاق عليها ليسير النقاش في مساره السديد- وإذا اكتشفنا أنها-أي هذه الوسائل في حاجة إلى نقاش جعلناها هدفا ، في حد ذاتها وناقشناها. فالنقاش في الجملة مفيد ومفيد جداً.

   أما الخوف من أن يؤدي بنا مطلب التعريفات إلى ارتداد لا نهائي  فلن يحصل إذا ما انبنى نقاشنا على أهداف معينة يرجى تحققها فيه. فنحن لا نميل إلى النقاش التوليدي اللانهائي لقلة جدواه، إن لم نقل انعداها.

    إن الحوار المنهجي مفيد في إبلاغ فكرنا للآخرين، فحين نمارسه نمارس الحوار على وجهه الصحيح فإننا نفيد ونستفيد، إذ إن الحوار يفتح مغاليق المعارف، وينقش عليها، ويحفزها ويهزها هزا فتبدي العجائب وتفصح عن الجديد من المسلمات التي نفضنا أيدينا منها. وظنناها واضحة، لا إشكال فيها.

   وهذا يبدو واضحا للمربين والمدرسين فحيثما فتح حوار أو نقاش ظهر الجديد وبزغ.

فمن خلال الحوار والنقاش تتضح الأفكار- لنا أولا. وترتقي عقولنا، وتتزن نظرتنا: إنها عملية تعريض الأفكار والمواقف للتشذيب والغربلة. والنقاش والحوار مع الغير يجعلك تفهم أكثر مواقفك وأفكارك. ففرق بين أن يكون موقفك تصورا في ذهنك وأن تبديه وتعبر عنه وتفصح بعباراتك وأسلوبك. وإثر هذا الإفصاح تكشف ذاتك.

   يزيد الحوار من قبول التلميذ لأستاذه، والابن لأبيه، حيث يشعر أن المربي لا يقصي ذواتهم وأفكارهم ومشاعرهم. فمن الهام جدا أن نجعل الحوار من أسس تربيتنا وتعليمنا، وركيزة من ركائزه. وأن يترك النمط السلطوي في التربية والتعليم زمن الزامنين وأبد الآبدين. فإنه جرب فما أجدى نفعا، أما حين نفرض الأمور فرضا جازما، ونلغي مساحات الحوار، ونسد بابه. فإن الاقتناع الحقيقي لا يكون، لأنك قد عرفت سابقا أن الاقتناع لا يرتبط بالحجة والبرهان بأي رابطة، فهو يرتبط بالقبول القلبي، فإذا لم يتحقق الاقتناع بالحوار والجدال بالتي هي أحسن فإنه سرعان ما يتحول إلى التمرد وعصيان. وكما يقول المثل الإنجليزي: من السهل قيادة الحصان إلى نبع الماء، ولكن من الصعب إجباره ليشرب.
-      الحوار مع الذات:  قد يبدو هذا العنوان لأول وهلة غريبا، لكن بعد تأملكه، وإمعانك فيه تجده أمراً حقيقيا.  الحوار مع الذات أولُ حوار، فقبل أن تحاور مع غيرك حاور مع نفسك، بينك وبينها. اسأل نفسك تجبك وشاورها تشر علي، واستنطقها تنطق لك، واستبطنها تدل لك بما في بطنها. وقصدي هنا بالنفس ليس الهوى، فهو لا يستشار، لكن يحاور.

   مناقشة الذات وحوارها مفيد في تجديد الأهداف وتسطيرها. ومفيد كذلك في المساءلة. فاسأل نفسك هل حققت كل الأهداف التي سطرتها. اسألها هل ما تمتلك من معارف هي لك أم لغيرك أخذتها عنه تقليدا، وهل أفدت في يومك إفادة أم كل وقتك قضيته في اللهو واللعب...

     إنَّ النقاش والحوار أمران مهمان في أي نظام تعليمي، حتى إنهما  ليكونان أكثر أهمية من الكتاب أحيانا، وذلك لأن المعلومة يمكن أن تحصل عليها من الحوار والنقاش، مثلها يمكن الحصول عليها من الكتاب خصوصا، ومن خلال الكلمة المطبوعة على وجه العموم، إلا أنها إذا استخلصت من الكتاب فإنها ستكون عرضة للنسيان، أما إذا ما استخلصت من خلال الحوار والنقاش ، فإن عمرها الافتراضي سيكون أطول[6].
إنك بتأملك في رأس مالك من المعلومات والأفكار والمعارف تجد الراسخ منها الثابت في رأسك هو الناتج منها عن الحوار والنقاش، تأخذ في ذهنك المكان المناسب، وتستحضرها متى ما شئت.
فظروف النقاش/ الحوار من مكان وزمان، وأحداث مرافقه له، ومشاعر وأحاسيس ومصاحبة... كل ذلك يقوي من الترميز، ويساعد في التشفير.

4- تدوين المعارف والمعلومات والأفكار، وتنظيمها، وتلخيصها.
  القلم آلة سحرية صدق أولا تصدق، وإذا كان بين إصبعي طالب علم متصف بالحكمة. فهو آلة تنقش على المعلومات، وتطلبها لتخرج فتخرج وتجيب طائعة راضية. زد على ذلك أنه مثبتها ومركزها في الذهن والفؤاد، يكبلها ويربطها إلى جدران النفس، لهذا قيل قيدوا العلم بالكتابة. وإن كنت لا أريد التقيد الحرفي والنقل، فرغم ما قد يقال فيه فإنه مفيد، والذي أنويه هو إعادة بناء المعارف والأفكار وتنظيمها، وإضفاء الصبغة الفكرية والذهنية والوجدانية والخاصة بالطالب عليها.

فليس من الضروري والواجب أن نبقيها على حالها، كما عثر بها. فثقافة الناس تختلف ولو بزغوا في بيئة واحدة. ولو كانت لهم الذات الوظيفية نفسها، ولو كانا توأمين حقيقيين من بويضة واحدة. فلكل وجهة هو موليها فسبحان الخالق الأحد الصمد.

   اقرأ فقرة من كتاب ما، ثم اعقل ما استفدته منه، ثم خذ القلم واقرأ بمعيته. دوِّن ولخص وارسم، وسطر، وعلق... تجد أنك أفدت أكثر، بل بدت لك معلومات كنت جاهلها في الحالة الأولى.

إنه من ناحية يشد الانتباه إلى المدروس والمقروء، فيكون عونا على التركيز والبناء والاستدخال. ومن ناحية ثانية يساعدها على تثبيت المعارف والأفكار. فلا يضر أن يسجل بقلم الرصاص ما استفيد من الكتاب في جانبه.
والذي أراه أحسن أن يدون ذلك في أوراق خاصة من نفس الحجم، وعند الانتهاء من الكتاب/ من دراسته، تودع في ظرف، ويكتب عليه اسم الكتاب وصاحبه، والمطبعة التي نشرته والطبعة. وأن يعنون الظرف بعنوان. ويدرج الظرف مع أظرفة أخرى في الحقل نفسه المشتغل عليه.

  وعليه سيكون الطالب أمام كتب في أظرفة. فبدل أن يعود إلى أصل الكتاب ومتنه يعود إلى تلك الملخصات والتعليقات، بل لم لا ينتقد الفقرات المنقولة في أجزاء الورقة... وقد تخصص كراسة لحقل معين، ويشتغل عليه، تملأ، ويصاغ ما بها من محاور أو عناوين مركزة.
   



[1]  سوكولوجيبة الذاكرة. د محمد قاسم عبد الله. عالم المعارف.ع : 290  فبراير2003 الصفحة 13
[2]  تنشيط قدرات الطفل على التعلم. اسماعيل الملحم.ص:21
[3]  تجديد الوعي. عبد الكريم بكار. ص:24
[4]  انظر أسطورة الإطار في الدفاع عن العلم والعقلانية.تأليف كارل بوبر . سلسلة عالم المعرفة العد 292. ص:87
[5]  أسطورة الإطار في الدفاع عن العلم والعقلانية. ص:88
[6] انظر القراءة وقاية وعلاج. د عبد الغني عبود. ص:108. سلسلة شبابنا آمالنا. الدار المصرية.ط: الأولى.2002/1422

النظم التربوية الوافدة والكتابات التربوية.




النظم التربوية الوافدة والكتابات التربوية.
                                                               حنافي جواد
ماذا بحوزتنا وماذا نمتلك؟
عار وشنار أن يلفي المرء أن كل ما بحوزتنا من آلات وأشياء وأفكار وتصورات، دقها وجلها ليست من صنعنا، ولا من بنات فكرنا. هي للأسف المرير المحزن من غيرنا. هم يفكرون ويتدبرون وينتجون ونحن نستهلك. فأصبحنا صورة  مشوهة لهم، وما أخذنا عنهم إلا ما بار من المنتجات وفسد من الأفكار والتصورات، بل نحن مرغمون على ذلك. فكيف يعقل أن ينتجوا ويبتكروا لنستهلك ونأخذه غضا طريا سهلا يسيرا؟ هذا من أكبر المستحيلات التي لا نحتاج مزيد عناء للتدليل عليها. فكلما زاد استهلاكنا زاد تخلفنا وتقهقرنا، والواقع يشهد برهانا ساطعا، ثم إن الصورة المستنسخة لا تكون كالأصلية حتما. فإذا لم نسطر طريقنا فالتخلف لا محالة مآلنا، والتقليد مرض مميت، والتخلص من عادة التقليد ليس سهلا.

    حقل التربية والتعليم منه يبدأ للتنمية وإليه العود. وأعظم الاستثمارات ربحا الاستثمار في الموارد البشرية. وأعظم مادة أولية؛ على الإطلاق؛ هي المادة الرمادية من دماغ الإنسان. فهي أهم مصدر للطاقة. والطفل مشروع إذا اعتني به العناية اللازمة كان ربحا لأبيه وأمه ولنفسه ولمجتمعه وللعالم والكون والعمران بأسره.

    فلئن تأملت وأجلت نظرك في هذا الكون وجدت الطفل قطب رحى الوجود، فبصلاحه صلاح العالم، وبفساده فساده، وهذا ما يجعل الاهتمام به وتربيته وتعليمه من أولى الأولويات وأجلها على الإطلاق. ذلك باختيار ما يصلح له ويصلحه من النظم والمناهج الكفأة ببناء فكره ووجدانه وسلوكه، القمينة بنقله من كائن طبيعي إلى رجل بانٍ للأجيال، وفاعل في الوجود. فالطفل لبنة من جدران المجتمع والوجود، فإذا كانت اللبنة قوية تحملت ما عليها، وإلا فإن مآلها التفتت والاضمحلال.

 – اسمع يا من يقول أن التعليم قطاع غير منتج وأسمع غيرك.
لذلك فإن أي تنمية لا يمكن أن تكون خارج رحم التربية ومناخها. إن المدارس والمعاهد العلمية التربوية هي طريق القادة السياسيين والاجتماعيين والمفكرين والإعلاميين...فهؤلاء جميعا، وغيرهم كثير، من أبناء التربية والتعليم، ومن خريجي المدارس، ونجاحهم أو فشلهم رهين بنجاح أو فشل النظم التربوية التي كان لها يد في تكوينهم  وتأهيلهم؛ إذ هي التي منحتهم من خطاطات التفكير، ومناهج العمل، ومعايير التقويم.

       إن النظام التربوي القوي كفيل بإنتاج إطار كفء خادم لمجتمعه منسجم مع قيمه، لا يجد نفسه آخر المطاف عضوا نشازا من جسم أمه. إنه يؤهل الفرد ليتموقع في مكانه المناسب له، ويسد ثغرة من ثغرات مجتمعه، لا ليكون هبة لمجتمع غير مجتمعه؛ أهل في بلده ثم رحل ليخدم مجتمعا آخر اشتراه رخيصا، لأنه لم يجد في بلده ما تخصص فيه واستفرغ جهده، فهو إذا ضحية نظام تعليمي مستورد.

    إن هذه النظريات التربوية والنظم المعرفية المستوردة لا مشروعية لها في إطار قيم الأمة وتاريخها وثقافتها وبيئتها ومرجعيتها، ولا بديل لنا ولا منقذ إلا تطوير نظرياتنا التربوية المنسجمة مع قدراتنا ومواردنا وطبيعتنا ومناخنا وخصائص مجتمعنا وطموحاته. فثم أسس ترتكز علها أي نظرية تربوية:
-       أساس مرجعي، فلا بد للنظام التربوي من الانطلاق من مرجعية معينة يؤمن بها ويعتقدها. فلا تكون مرجعية زمرة معينة، بل مرجعية شمولية كلية.
-       أساس هدفي، الأهداف المزمع تحقيقها من التعليم، فيجب أن تكون واضحة جلية بعيدة من التعميم، إنها أهداف عامة إجرائية ممكنة التحقق في وقت مضبوط، أما الفضفاض منها فجربناه فما أجدانا وما نفعنا!
-       أساس وسيلي: النظام التربوي التعليمي يضع رجله على الوسائل لينطلق منها إلى الأحسن، يُعُدُّ الوسائل المتاحة له لتحقيق مراميه. ولا يعتمد منها أساسا إلا على المتاحة له، لا المتوقعة أو الزائلة في المستقبل.
-       أساس توقعي تنبئي: النظام التعليمي ليس جامدا ثابتا على الحال الأولى التي وجد فيها، بل دائم التغير فيجب تتبع الأحداث وما يجد من حديث في الواقع والمجتمع مع تحسس تنبئي من خلال معطيات الحاضر وتجارب الماضي.
-       أساس علمي يتوقف على  دراسة خصائص التلاميذ الفكرية والنفسية والاجتماعية...وفهم ما يعززهم إيجابا وسلبا، ما يرغبهم وما يرهبهم، ما يتوقعونه وما لا يتوقعونه...

       إن المشكل الأساس الذي يعاني منه النظام التعليمي أو العملية التعليمية التعلمية بشكل عام هي أنها في معظمها قائمة على التناقض في المرجعيات والتشاكس في الفلسفات وغموض في الأهداف، الأمر الذي أدى إلى التبعثر وتمزيق رقعة التفكير واضطراب رؤية الحياة...فبدل أن يكون التعليم سبيلاً للترقي والتفكير والإبداع والإنتاج أصبح محلا للحيرة والارتباك والتلقين وإنتاج العطالة.
   إن النظم التعليمية الوافدة صادرة عن مرجعية غربية غريبة عن الواقع الذي تطبق فيه، ولا يتلاءم في واقع الأمر وضروريات المجتمع وحاجاته الأساسية. من سمات النظم التعليمية الوافدة:
-       انبثاقه عن مرجعية غريبة عن بيئة المتعلم وظروفه،
-       استهدافه أهدافا خاصة مباينة للأهداف المنصوص عليها.
-       انبناؤه على خصائص ومميزات الذين وضع لهم النظام.

وهذا ما يعلل صعوبة تنزيل نظام تعليمي وافد على واقع مدارسنا وكلياتنا. فالوسائل المتاحة لهم غير متاحة لنا، وما يرمي إليه النظام لا يتوافق مع أهدافنا ومطامحنا. والأطر التي هم في حاجة لها ليست هي الأطر التي نتوقف عليها. وبناهم الاجتماعية ليست هي بنانا، وإن كنا نحوهم نسير ونمطهم نقتدي.

     أما قول القائل إنه نظام ليس إلا. والنظام من نتاج العقول. والعقل لا بيئة له، فهو قسمة عادلة بين الناس، ومبادئه فوق الزمان والمكان، فلا حرج إذا في نقل نظامهم وتبنيه منهجا ومنهاجا...فمن أبشع الأخطاء المنتشرة بين الناس والمساقة على ألسنتهم.
نقول للجاهل بحقيقة العقل إنه لا يكون عقلا إلا إذا تشرب من الثقافة التي ترعرع فيها، أو شِيأَ له أن يترعرع فيها، وقبل ذلك لا يكون. فالثقافة هي التي تكون العقول، والثقافة نتاج مجتمع؛ بل أقطاب في المجتمع. العقل إذا نتاج المجتمع. ألم تعلم أن اختلاف الناس في التفكير راجع إلى اختلاف البيئات التي ترعرعوا فيها. وإن هذه البيئة هي التي تكون المعالم الفكرية والأحكام القيمية. اقرأ أن شئت جغرافية الفكر تأليف ريتشارد إي نسيت منشورات مجلة عالم الفكر العدد 312 

     النظام التعليمي الواقعي الناجح ، هو ذلك النظام الذي ينشأ في رحم البيئة، وترعرع في أحضانها، ويتلهف نحو البحث عن مشاكلها وحاجاتها رغبة في تقديم بلسم شاف لمرضاها، آخذا في الاعتبار ما للبيئة من خصائص ومميزات بغية إحداث تغيير عملي ملموس فيها، وبناء على ذلك فإن النظام التعليمي الصحيح مرهون بدرجة خدمته للبيئة والمجتمع،وقدرته على فض المشاكل وتخطي العقابيل والعقبات.

  مما استورده نظامنا التعليمي من طرق التدريس الفعالة اعتبار الأستاذ مسهلا للعملية التعليمية التعلمية لا ملقنا للمادة. لكن السؤال المطروح هو: ما نوع التلميذ الذي كان في الحسبان قبل وضعهم النظام؟
إنه تلميذ يحمل من الزاد ومن الثقافة ما يجعل واجب أستاذه مقتصرا على التسهيل والوساطة. تلقى في مجتمعه عن الطريق التنشئة الاجتماعية وداخل المحاضن و(الأسرة) ما تيسر له من المعلومات وشيء من المناهج، وهذه ينطلق منها أستاذه لينمي معارفه ويطور مهاراته. ونسألك أنت أيها المربي في الوطن العربي الحبيب عن نوع التلاميذ الذين تواجههم. وهل تكفيك / يكفيهم كونك مسهلاً غير ملقن، جرب وأخبرني. أقول بجراءة إنه صفحة بيضاء تماما. صحيح: إنه يمتلك ثقافة وهذا أمر منطقي لكنها مباينة لثقافة المدرسة أي مباينة، بون شاسع بين الاثنين. ولست أنفي أنك قد تجد في أوساطهم من تصلحه هذه الطريقة، لكن إن سلكتها فلن تتواصل إلا مع فئام قليلة.

     دعنا لا نبتعد كثيرا لنعلن عن حقيقة، ربما لا تجهلها: إن جل التلاميذ لا يمتلكون اللغة أداة التواصل؛ شفهيا أم كتابيا، دعْ عنك الأخطاء الفادحة التي يرتكبونها نحوا وتركيبا وصرفا ولغة  وأسلوبا ويستمر معهم هذا الداء إلى التعليم العالي وما بعده...

إصلاح التعليم لن يتحقق إلا إذا انطلق من الدراسة التشخيصية للمشاكل التي يعاني منها. فبعد جرد العقبات والنقائص بدقة متناهية نبني عليها خطط العلاج. وأصعب مراحل التطبيب التشخيص فإذا كان ناجحا ومضبوطا، وكان الرجل المتخصص بصيرا اكتشف الداء وحصل العلاج. لكن لم نمتلك الجراءة اللازمة لنعتمد على أنفسنا وأفكارنا وتجاربنا، لا زلنا معلقين بثدي غيرنا وأجسادنا أجساد بغال وأعدادنا تعدو الحصر، كثر لكنا كغثاء السيل! فمتى سننعتق؟ متى سنصارح أنفسنا ونقدم لها الحقائق كما هي في الواقع لا كما نسجله في الأوراق. ( عدد الناجحين %100)

وأقصى المحاولات التي نسمع عنها ونراها أن يقدم الرجل على النقل من هنا وهناك، هدفه تكثير الإحالات ليقال إنه كثير الاطلاع وباحث، فيأتي بشيء بعيد كل البعد عن النظام التعليمي، قريب من كل القرب من التعميم والتعتيم. كلام فضفاض عام يحتمل ويحتمل. يستعمل بعض الألفاظ والمصطلحات غالبها مساق حرفيا بلغتهم، فلا أنت أمام لغة عربية فصحى ولا أمام فرنسية أو إنجليزية.

ونقول للذي يقول بعكس هذا أو يخالف: سنهيئ لك فصلا دراسيا فهلم ونفد الذي تقول. إنك لن تستطيع إلى ذلك سبيلا. وإني أراه الآن يقدم رجلا ويؤخر أخرى بغيته تهيئ الجو للدراسة، وإن ضبطه الفصل لمغنم عظيم، وفوز جليل!! فليس من رأى كمن سمع...

     بعض الذين يتصدون للتنظير في التربية والتعليم من الغرباء عن الميدان، فأهل مكة أدرى بشعابها. وبعضهم يعرف ويدرك الموجود لكن يتجاهل ويأبى إلا الخوض في لعبة الألفاظ...!! نعرفهم ونسمع عنهم أيضا أنهم لم يفلحوا في فصولهم فلم يكن تواصلهم مع تلامذتهم كما يلزم ويطلب، ولما تقلدوا مهمة الإشراف التربوي طال لسانهم وكثر مقالهم...

   ما أحوجنا إلى الوضوح والدقة والتصالح مع الذات، والاعتماد عليها، كثيرة هي الكتابات التي تقرأ لكن لا تفهم. وإذا فهمت فعسير تطبيقها، أن لم نقل يستحيل. وليس القصور في فهمها راجع إلى ضعف مستوى القارئ أو تدني لغته...إنما راجع إلى نوعية اللغة التي كتب بها النص (الموضة الجديدة في الكتابة والتأليف) فأصحابها أعجبوا بنوع من الخطاب الجامع بين كلمات عربية غير فصيحة وأخرى مترجمة من أمثال: سيكولوجيا – سوسيولوجي – إيديولوجيا- تيمة...  وأخرى ما كنا نسمع بها مأسسة – بنينة - سيكوتربوي...

  عفوا إن المشكل مشكلنا: إن مستوانا تراجع، ومستواكم تطور ورقى. فأنتم أبلغ منا علما وفهما ودراية بأمور التربية والتعليم، ويجب أن نرتقي لمستواكم وسنحاول!! سنتعلم العرنسية!!

ولا أستبعد أن يكون فهم صاحبها ناقصا ومشوشا بضبابية، وأحتمل أن بعضهم لا يفهم مما يسطر أو يترجم إلا بعض الذي يحفظ مما كتب / نقل أو ترجم. إنما حلاوة الألفاظ وطنينها هو الدافع المحفز إلى استعمالها، والتعلق بالآخر له يد في الأمر كذلك. وأراني أرى بعضهم يفكر على النحو التالي: " إذا كنت ترغم في أن تصبح عالما فعليك بكتابة ما لا يفهم".

 دع عنك أن الأعمال المترجمة التي لا يدرى أولها من آخرها. والترجمة ليست بالعمل السهل!!

وهذا المذكور أبعاض من أسباب عزوف الناس/ أهل الميدان عن قراءة ما يهمهم. وأحرى بنا أن نشجع على اقتنائها بتضمينها المفيد النافع بأسلوب إجرائي مركز مشجع بعيد عن الإطناب واللف والدوران...بأثمان رمزية، فليس المجال مجال ربح وتجارة، ولم لا توزع مجانا في المؤسسات التربوية التعليمية إذا كان هدفنا حقا الرفع من جودة الأطر التربوية!!

  والذي أركز عليه هو كتابات إجرائية عملية واضحة نقطة انطلاقها الموجود، وصولا إلى الأحسن. وليعتبرِ الكاتب المتلقي ساذجاً إلى أقصى الدرجات لا يدرك من الأمور إلا ملموسها، وليتعمق هو كما طاب له ليقدم للناس زبدة ما أفاد! ليست تهمُّهُ أعداد الصفحات، بل نوعية المكتوب عليها، ونكفيه شر اللف والدوران والإطالة، فزمن اليوم زمن السرعة!!
" فالذي لا تفهمه لا نفهمه بدليل الأولى، والذي تفهمه قد لا نفهمه". وهذا الذي قلت لا ينسحب على الكتابات التربوية بل كذلك على غيرها التي سارت على هذا المَهْيَع، فشابها من الغموض ما شابها.

     الكتابات في التربية والتعليم ذات سمة وصفية، تتناول العملية بالوصف والتتبع والاستقصاء. أي بكلمة أخرى إنها لا تتعامل مع المشاكل المطروحة جردا وبحثا وحلولا. تركز على ما يجب أن يكون وتنسى الكائن الموجود من العوائق والعقبات التي تقف سدا منيعا أمام سير التربية والتعليم في مسارها الصحيح. وبهذا تكون بعيدة عن الواقع الحقيقي للمدرسة.

إن المدرس لا يجد صعوبة في التدريس إلا من شذ منهم، وإنما موطن الصعوبة في مشاكل أخرى تعترضه؛ من قبيل نوعية الحمولة الثقافية للطفل من حيث توافقها أو تنافرها مع جو المدرسة، والوضعية المادية للأسرة وقدرتها على تحمل المصاريف، وما يخلفه ذلك من مؤثرات نفسية وانفعالية، ومكانة المدرسة في المجتمع، وعلاقة المدروس بالواقع...كلها عوامل ومشاكل أساسية خليق بنا أن نتعامل معها بجدية وصراحة وموضوعية. وإذا ما غلبناها فالنجاح حليفنا إن شاء الله. ولن يتحقق ذلك باستيراد منهج أو خطة. فالمشكل ذاتي مرتبط بنا بالدرجة الأولى، ومشاكلهم ليست مشاكلنا. 

    أهلية الطفل وكفاءته ترافقه من البيت الذي نشأ فيه ونما، وخطاطات تفكيره من بيته تنبع. ونجاح الطفل/ التلميذ أو فشله آيل إلى مسقط رأسه أسرته، والفضل كل الفضل لبطولة أبيه وأمه، أو من كان لهم يد في تكوينه وتأديبه، ومنحه المادة الخامة، ورأس المال الذي يستثمره في المدرسة الثانية. ويكاد يكون هناك إجماع بيع العلماء والمتخصصين أن شخصية الطفل ولملامحها الرئيسية ينتهي تشكلها في حدود سن السابعة من عمره. وبعده يصعب استدخال ملامح جديدة. ولا أحب أن يفهم من كلامي هذا أني أستخف من مكانة الأستاذ ومقامه، فهو عظيم لا شك، وفضله جليل. لكن نجابة التلميذ في آخر المطاف تأتي من أسرته، وفشله منها كذلك...وحصول التلميذ على مراتب جيدة يعني أن أستاذه قد أدى واجبه على أحسن ما يطلب. وليس يعني ذلك أن الطفل جاء صفرا من بيته، فملأه الأستاذ في ساعتين أو أربع من الأسبوع، بل له زاد وحصيلة ورأس مال أهله ليكون كذلك.

    وهكذا وصلنا إلى مسألة مهمة وهي أن مشاكل التربية والتعليم لم تنبع بالضرورة من المدرسة، فالجزء الأكبر منها خارج عن جدرانها، آتٍ من خارج الأسوار. تدخل إليها في جيوب التلاميذ، وعقولهم ومشاعرهم، وزيهم ...لتتخذ بعد أمد سمة داخلية، فيتوهم المتوهمون أنها مولود في عش المدرسة، وهي ليست كذلك.

      فلسنا إذنٍ في حاجة إلى استيراد نظم ومناهجِ تربوية من خارج محيطنا. وقد كنتَ على بينة من حقيقة الأمر، وعرفتَ أن المدرسة ليست المتهم الحقيقي الذي هو أصل الداء. وأنها لا زالت تؤدي واجبها كما يرام، وإن كان ثمة خلل أو نقص فمن ضرورات الخارج عنها.
    مشاكل المدرسة واجب أن تفهم فهما شموليا كاملا. فهي ليست حقلا مستقلاً عن غيرها من الحقول، ولا تربطها بهم أية رابطة، أو مستقلة في برج من العاج عال مفارق للحياة والمجتمع.
ولكنها مربوطة بالحقل الاقتصادي والاجتماعي والأسري والثقافي والعلمي (في غمرة انتشار وسائل الإعلام) والإعلامي والفكري...

   وهي لن تكون مفلحة في رسالتها إذا لم تجد بجوارها أسرة مهيأة، مندمجة في بيئته المدرسية الجديدة اندماجا حسنا، فهي المدرسة الأولى المهيِّئَة للحياة قبل أن تُعِدَّ الطفل ليكون تلميذا.

ولكي تكون الأسرة كفأة في هذا فهناك شروط وضوابط تجعل منها الأسرة الناجعة صانعة الأجيال. فالأسر في حاجة إلى كفاءة عالية في التربية لتهيأ للطفل للمدرسة.

     قيمة وعادات وعقلية الأسرة المسلمة ليست في هي قيم أسر أخرى ترعرعت في بيئة جعلت منها نوعا آخر، بقيم أخرى، وسلوكات مباينة. فمن غير المعقول أن نلبس هذه لباس الأخرى أو العكس. فلن يصلحها ولن يلائمها، ولن يكون ذلك إلا بعد طول أمد ومشقة أنفس، بعد أن ننسلخ تماما من حصيلتنا الفكرية والوجدانية، ونستسلم لقيم الآخر وعادات بالكلية، وفي هذا ما فيه من الهوان والصغار والذل - إذ لا عز بلا إسلام- آنئذ ممكن أن ننقل نظمهم وننزل أفكارهم ونظرياتهم على مجتمعنا ومدرستنا وأسرتنا...

ويبقى عائق أخير أراه خطيرا وصعبا هو المحيط الاقتصادي والاجتماعي والأسري والفكري الذي ترعرعت فيه البرامج والمناهج الأجنبية، فكيف السبيل إلى توفيرها؟
  
    فوا أسفاه على قيم فقدناها كالكرم والسخاء، فغدونا لا نختلف عن مجتمع أناني. يقول كله نفسي نفسي. ولم تبق للإخوة النكهة التي كانت لها، ولا العلاقة بين أفراد الأسرة. فذهب الحس الجماعي وحلت الشراهة والأنانية، واستعاض الناس بالمال عن الأخلاق...وهذه ليست من شيمنا ولا أخلاقنا.

يقول قضب مصطفى سانو: "إن هذه النظم الوافدة، وبإسقاط مرجعياتها على الواقع الإفريقي ترك بذلك آثارا فكرية على الشباب الإفريقي المسلم، إذ إنها جعلت الأجيال التي تخرجت عليها تؤمن بضرورة الفصل بين العلم والدين المطلق، بغض النظر عن أن يكون الدين الذي يفصل بينه وبين العلم دينا كنسيا أو دينا منزلا من عند الله جل جلاله...فإنها  تمكنت من تخريج جيل من الشباب فارغ الأكواب، ظمآن الشفتين، مصقول الوجه، مظلم الروح...كليل البصر ضعيف اليقين"[1].

    ونظم التعليم الوافدة أو المبشرة بالفكر الوافد لم تكن لتصنع هذا لولا وجود قنوات أخرى تصرف من خلالها فكرها وسلوكها، فهناك تضافر وتعاضد بينها، واليد الواحدة كما تعلم لا تصفق. كذا فإن صلاح نظمنا لا يكون إلا إذا تضافرت الجهود: جهود وسائل الإعلام والمجتمع المدني والإدارة والأسرة...أما أن تبني الأسرة وتهدم المدرسة أو الشاشة فغير معقول، وعندما لا يتضح الهدف ولا تتوحد الرؤى والجهود من أجل بلوغه، فلتنتظر الاضطراب والغموض.

     إن هذه النظم التعليمية الوافدة لم تتوقف آثارها على مستوى نظرة الشباب إلى الغاية من الحياة والهدف الأسمى من الوجود الذي لخصته أساسا في جمع الأموال، واتباع الشهوات، وركوب أجود السيارات، واقتناء أجد الآلات المتطورة ...وإنما تركت ولا زالت تترك بصماتها الواضحة على نظرة الأجيال الصاعدة إلى واقعها، وظروفها التي تمر بها إذ إنها تعتقد أن التقدم والتطور مرهون بالولاء لكل ما هو غربي أمريكي...وبتمثل مبادئه وقيمه ومناهجه، وطرائقه في التفكير، وأسلوبه في الحياه، وفي الإدارة  وفي التفكير والتدبير. وهي تظن أن نقل هذه التقنيات من شأنه أن يجعل منها منافسا لهؤلاء.

     وفي هذا السباق يقول المهدي المنجرة: إن الأمر الأساس الذي يجب التركيز عليه هو أن العلم والتقنية الجديدة كلاهما من المكونات العضوية في الثقافة، وهما لا  يصبحان مرتبطين اجتماعيا، ومنتجين اقتصاديا إلا إذا  أدمجا في البيئة الثقافية التي يعملان فيها، وبذلك يصيران ظاهرة ديناميكية تستحدث التجديد والإبداع.

  ونفهم من هذا أن أكبر كذبة هي ما يسمى بنقل التكنولوجيا. ليس هناك شيء يمكن تسميته بنقل التكنولوجيا، فبمجرد استيراد المنتوج التكنولوجي، فضلا عن استيراد الفنيين للسهر على تشغيله وصيانته ليس بحال استيراد التكنولوجيا؛ فما يتم نقله تحت غطاء هذا المصطلح هو مجرد مواد عفا عنها الزمن وبأثمنة لا مسوغ لها، ولا سبيل للوصول إليها إلا باكتساب المعرفة وتنشيط الابتكار[2].

وما قيل عن استحالة التطور عن طريق نقل الآلات والفنيات والتقنيات الأجنبية يقال كذلك عن النظم التعليمية والتربوية. فكلاهما ينمو ويترعرع في محيطه. بل نقل هذه النظم أخطر، لأنها تكرس التبعية الثقافية، وتدفع إلى نقل التتمة؛ الآلات والتجهيزات التقنية.

     زد على ذلك أن وسائل الإعلام تشجع الاستيراد، فتعرض ما جد في السوق منها بطرق ذكية تفتح شهية المتلقي المشاهد لاقتنائها. ومن حقهم العرض والاتجار ومن حقنا الرفض، لكنا مستلوبون طغت علينا شقوتنا فانهزمنا أمام النضارة والعذوبة.
 
     يذكر إيف أوود في كتابه بأنه يتضح من دراسات الفعالية لتصير الثقافية الأمريكية، أن أكبر قدر من الاستهلاك يحدث في المناطق التي تشكو من مجاعة في المعلومات الحديثة والثقافة المعاصرة، بمعنى آخر فإن غياب المنافسة هو الذي يلعب لصالحها.[3] 

      فغياب المنافسة في كل شيء، في النظم التعليمية، وفي الصناعات، وفي التقنيات، وفي المعلومات... وغياب المشروع المحلي، وكل ذلك يشجع على الاستيراد، ويخلق مجاعة تدفع إلى الإتيان على الحابل والنابل والغث والسمين، وما أقل المفيد.

     وتجد بعضهم يملأه العجب، ويغمره الاندهاش، وهو يفك تلك الآلات، أو يتحدث عن مكونات الحاسب الآلي، أو يركب سيارة من النوع الحديث التقنية... وكأنهم صانعوها ومبتكروها.
      والجمهور من الجهال يصفقون لهم ويطبلون ويزمرون، إذ إنهم استطاعوا فهم اللغز وكشف السر. وفكرة التطوير أو الإضافة أو... لا تخطر لهم ببال. كما فعلت اليابان، فإن استوردت الآلات الغربية الأمريكية، لكن أعادت فهم آلياتها، وكيفية عملها وركبتها تركيبا جديدا، وفق مقاييسها وأذواقها، ففي التركيب الجديد نجد أن هناك إبداعا يابانيا ينسجم مع القيم المجتمعية ومع الخصوصيات اليابانية، وفق ذوق الإنسان الياباني في الحياة، فهناك إذن إبداع ذاتي[4].

فهذه المجاعة الثقافية خلقت قوة استيرادية عارمة طغت على كل المجالات والحقول، بما في ذلك حقل التربية والتعليم، حيث نقلت عنها النظم والبرامج، وطرائق التدريس، والتفكير... تحت لواء " العقل لا جغرافية له ولا بيئة".

     ليس هناك إذن تراكم معرفي في مجال البحث التربوي، ليس هناك خطاب تربوي مؤسس. ولربما حتى إرهاصات لتأسيس خطاب تربوي، نزعم بأن الكتابات السيكوبيداغوجية الرائجة لن تشكل سوى عوائق معرفية جديدة[5]. 

وينضاف إلى هذا تقلص واجب الأسرة، فنزل الثقل كله على المدرسة التي لم تطق حمل أعباء كثيرة، وتحملت مسؤوليات جسام من تربية وتعليم وتأطير، وضبط وتكييف، وخلق توافق مع المدرسة ... فأصبح ذلك ضغثا على إبالة، وازداد الطين بلة إلى بلة.

ومن هنا كان واجبا على الأسرة إعداد الطفل لمرحلة التلمذة الناجحة ومسايرة المدرسة، وفي حالة غياب تأهيل الطفل فإنه يتعثر ولا يتقن ما يناط به.

     وخلاصة القول في هذا: أننا في حاجة ماسة إلى نظام تربوي تعليمي تعلمي ناشئ في أحضان ثقافتنا واع كل الوعي بخصائص مجتمعنا، وإدراك المشكلات التي نعاني منها. منسق الجهود مع الأسرة والمؤسسات الأخرى. فنجاح أي نظام تربوي رهين بتضافر الجهود وتكاثفها. ومسألة التغيير والإصلاح لا تكون من جانب واحد وإنما هي عملية مشتركة، وإن كان لبعضها الأولوية وقصب السبق. كما نحن في حاجة إلى كتابات تربوية واضحة إجرائية تقف عند المشاكل لتعالجها بصراحة وجلاء، ولا تكتفي بالوصف الظاهر السطحي.

  وإليك الآن المشاكل الحقيقية في تعليمنا من خلال تشخيص وقع التلاميذ والطلبة:
-       ضعف لغوي، فجلهم لا يتقن الخطاب العربي/ كذا الأجنبي.
-       الجهل بقواعد النحو والصرف.
-       المحدودية في التفكير والنظرة الساذجة إلى الأمور.
-       طغيان الأسلوب الوصفي على حساب المنطقي، من تحليل ومناقشة.
-       الاكتفاء بالكتاب المقرر، يحفظ ولا يفهم.
-       التباعد بين المدروس من الدروس والواقع، حيث لا يفيدون من المعلومات التي يكتسبونها. فسرعان ما تنسى أو تهمل.
-       انعدام الحس الابتكاري والإبداعي، فلا يرمون تطوير ما درسوه وتعلموه.
-       غياب منهج علمي في السلوك والتفكير، في الدراسة.
-       غياب/ ضعف الحوافز الداخلية.
-       الاتكال على الأستاذ/ المدرس وغياب التكوين الذاتي.
-       سرعة الانسياق مع الأفكار والتوجهات، أي غياب حس نقدي من شأنه أن يعصم الفكر من الوقوع في أخطاء تنعكس على السلوكات.
-       الإرهاق والتعب من جراء كثرة الدروس، كثرة ساعات الدراسة والتركيز على الكم...والتركيز على النظري وإهمال العملي والتطبيقي وهو أهم وسيلة للتعلم.
-       أغلبيتهم لا يثمنون العلم والمعرفة، فلا فرق عندهم بين العارف والجاهل. فتجده مضطرا للتمدرس نظرا لضغط الأسرة.
-       غياب القيم النافعة والأخلاق الفاضلة؛ فتلاحظ أنه لا تميز خريج المدرسة عن غيره. (السرقة- الرشوة - الأنانية - التعصب للرأي - غياب الإتقان- الحرص على الربح بأي وسيلة...)
-       عدم الانضباط في الصف وشيوع سلوكات متهورة.
-       الإهدار والانقطاع عن المدرسة.
-       قلة/ غياب الإتقان في العمل، التحضير، التنظيم... وطغيان العجلة والسرعة.
-       المهم هو النجاح بأي وسيلة...
-       الاعتقاد بأن التفوق موهبة وليس جهدا ومجهودا...
-       انفلات التلميذ من الرقابة: رقابة الإدارة والأسرة...



[1]  انظر: النظم التعليمية الوافدة في إفريقيا – قراءة في البديل الحضاري – كتاب الأمة ع:63 ص:94-95-96
[2]  انظر حوار التواصل من أجل مجتمع معرفي عادل. ص:116.
[3]  انظر ثقافة الطفل بين التغريب والأصالة. مصطفى حجازي. ص:90
[4]   انظر حوار التواصل من أجل مجتمع معرفي عادل. المهدي المنجرة.ص:117
[5]   انظرالخطاب التربوي بالمغرب. أحمد أحدوثن. ص:151 سلسلة المعرفة للجميع. ع:28